
د. خالد فتحي: «ماريو وأبو العباس» لريم بسيوني: معمار يتصوف.. وأرواح تقابلت في الأزل
د. خالد فتحي
الكتابة عن رواية “ماريو وأبو العباس” للكاتبة ريم بسيوني تمثل بالنسبة لي تجربة غنية تستحق التأمل. أولى البواعث على هذه الكتابة هو اعترافي بكوني مدمنًا على سردها المتفرد، وواحدًا من أشد الباحثين عن كل جديد تتفتق عنه قريحتها. فأسلوبها الشفاف، والرشيق، المموَّه بجرس خاص ونبرة عذبة، يشكل علامة فارقة في الأدب المعاصر، إذ تمزج فيه بين الفلسفة والروح، بين التاريخ والتجربة الذوقية.
ثمّة أيضًا عامل آخر لا يقلّ أهمية، وهو أن الكاتبة، وفي أكثر من مناسبة، قد صرّحت بأن من بين أبطال هذه الرواية، يوجد الشيخ المغربي الجليل، أبو الحسن الشاذلي، صاحب المقام الشهير في حُميثرة. ولأني أجد نفسي أغوص هذه الأيام في غمار التراث الصوفي المغربي والمصري، أدرك تمامًا كيف يرتفع هذا التراث، بوصفه كذلك رياضة أدبية، بالقراءة والكتابة إلى مرتبة الذوق والإبداع. ولذلك، فإنكم تخمّنون أنني أشعر أن هذه الرواية توفّر لي نافذة نادرة للولوج إلى عالم التداخل الصوفي بين المغرب ومصر، هذان البلدان العظيمان اللذان يحيطان بشمال إفريقيا من شرقه وغربه. كل ذلك عبر رواية نُسجت بخيوط الوجد… رواية قد تنبذت زاوية فنية متميزة غير مسبوقة، كونها، ربما، المحاولة الروائية الأولى التي تجمع بين فن المعمار والتجربة الصوفية في نسيج حكائي واحد، محقّقة لقاء قمة بين قطبين في الجمال: التصوف والفن.
لكن ما يدفعني لقراءة هذا العمل لا يقتصر على الإعجاب بالأسلوب أو الاهتمام بالتصوف فقط، بل يرتبط بعمق شخصيّ يسكنني. فعندما أقرأ عن المرسي أبي العباس، سليل مرسية الأندلسية، وعن شيخه الشاذلي، أخوض رحلة ذات أبعاد روحية. فأنا لست متلقِّيًا محايدًا ولا متفاعلًا سلبيًّا في هذه القراءة، بل أعتبر نفسي شريكًا في هذا التراث الروحي الذي لا يزال يجذب المريدين من كل أقاصي الأرض، وبالتالي جزءًا من هذا النهر المتدفق من القيم والمعاني. إن أولئك الأقطاب الذين ترقد أرواحهم بسلام في الإسكندرية، يعودون في جذورهم الفكرية إلى جبل العلم في تطوان المغربية، حيث مقام القطب المغربي أبو الأولياء عبد السلام بن مشيش، الذي كان له الفضل في تخريج أبي الحسن الشاذلي المؤسس للطريقة. وتعبيري عن هذا ليس نابعًا من التعصب أو الفخر الوطني، بل من اعتراف بوحدة السند الروحي لأمتنا، وبسريان المعنى عبر الجغرافيا.
ولأجل كل ذلك، أجاهد بهذه الأسطر أن أكون امتدادًا لتلك السلسلة الذهبية بطريقة أخرى، أي بما قد أستطيعه… أكتب هنا إذن كي أفتح الباب على مصراعيه أمام روائيتنا الكبيرة ريم بسيوني لاكتشاف “مغارة علي بابا” الصوفية في المغرب، حيث كنوز القصص والتجارب والكرامات تنتظر قلمًا أدبيًا مُلهمًا مثل قلمها. لأنه إن يتناول هذا التراث الزاخر مبدعون بموهبة صادقة، كما فعلت هي في ماريو وأبو العباس، فسيولد من جديد في حلّة روائية راقية نادرة المثال، بل في قالب أدبي عابر للعصور. ولكم أن تتخيلوا لو يكتب قلم كقلم بسيوني عن… سيدي أبي العباس السبتي، سيدي أحمد التيجاني، مولاي العربي الدرقاوي، الشيخ ماء العينين، سيدي عبد القادر الفاسي، سيدي محمد بن سليمان الجزولي… إلخ، أية روايات سنتحصل، وأية قوة ناعمة ستنفرز أكثر أمام عيوننا، نرشد بها هذا العالم التائه الغارق في الصراعات والحروب والكراهية، والذي تتخطفه السيولة المفرطة وانحرافات الاستهلاك الجشع، والإباحية، والإلحاد، فترمي به دون شفقة في أتون اللايقين.
ولذلك، والحالة هذه، نحن، بلا شك، بحاجة ماسّة لأن نغترف من الينابيع الصافية للفكر الصوفي من أجل تحقيق نوع من الخلاص.
هذا، في تقديري، ما يفسّر الإقبال المتزايد على روايات من مثل ماريو وأبو العباس… الرواية التي إن تقرؤوها – وستفعلون – ستجدون أنها تنشد هذه المقاصد نشدانًا. ولربما هي، فوق هذا، تؤسس أو ترسّخ نمطًا في الحياة يعيد الاعتبار للقيم الإنسانية، ولذلك فإني أرى أنها أيضًا بشرى برواية تتمخض لدى الكاتبة عن القطب الأويسي عبد السلام بن مشيش. فهي قد توكّلت، وسلكت طريقًا، ولا بد أن تسير فيه إلى منتهاه، ومنتهاه سيكون هنا، بالمغرب. فحين تلج لحضرة الشاذلي، وأبي العباس المرسي، وابن عطاء الله السكندري، وياقوت العرش، والبوصيري، فإنهم يقودونك إلى وليّهم الأكبر… إلى تطوان.
لا بد لي أن أقرّ أن هذه الرواية، وهي تخلّد هذه الشخصيات، بحبكات متقنة من لدن روائية ذات مران في الحكي والسرد، وتجربة وبصيرة عند انتخاب أبطالها، لسوف تساهم في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة التي ارتبطت بالتصوف كممارسة؛ فهي تنزع الشوائب التي علقت به، وتعيد له نقاءه الأول. نقاء الماء الزلال الذي تعكسه سير الأقطاب.
الرواية ليست ممتعة لك فقط، أيها القارئ العزيز، بل هي جهد لغوي وتعبيري ضخم، سيثري قاموسك ومعجمك. يقيني أن الكاتبة قرأت عشرات الكتب قبل أن تسوّد هذه الصفحات التي بين يديك. وواضح جدًّا أنها ليست “محايدة” في هذا… هي مريدة للفكر الصوفي، عارفة به، تنقّب وتنافح عنه بقناعة وشغف. وحين تستدعي سيرة الشيخين الجليلين، الشاذلي وتلميذه المرسي، فهي تقدّمهما للقراء، ولذوي النزعة الصوفية منهم بالخصوص، كنموذج حيّ يمكن لهم أن يقتدوا من خلاله بالصوفية الحقيقية إن نازعتهم أنفسهم لتلمّس الكمال: تلك الصوفية التي تتحقق فيها العبودية لله، فتُقام فيها الشريعة، ويستقيم فيها السلوك، وتفيض المعرفة، ويشرق القلب، وتترقرق النفس بالحب الذي لا تنفصم عراه.
إنها رواية تُحيي “بركة” الشيخين في نفوسنا، حتى إني لأطالب بأن تُعتبر صيغة سردية متفردة، تتفجر فيها اللغة الصوفية الرقراقة التي تهيم بها النفس وتعشقها الذائقة، وذلك ضمن التراث الأدبي الصوفي الذي يمكن أن نتفق على تسميته بـ”الحديث”.
الرواية في بنيتها ليست فقط سردًا لوقائع تاريخية أو قراءة لمرحلة ماضية، بل محاولة جريئة للربط بين أزمنة مختلفة، وأرواح متقابلة ومتماهية، يجمعها مقام، أو مسار، أو إشراق خفي. في هذا العمل، نرى محاولة لرسم خريطة أخرى للقداسة: ليست القداسة التي تسكن الكتب والمعاجم، بل تلك التي تتسلل من الحجر، ومن الخط العربي، ومن الفنّ إذا صدق، ومن الدعاء إذا صفا.
ماريو روسي، المهندس الإيطالي، ليس بطلًا غربيًّا في الشرق، بل عاشقًا للجمال قد حلّ ضيفًا في محراب الروح. جاء ليبني مسجدًا فبُني من جديد. في تصميمه لمسجد أبي العباس، لم يرَ فقط الحجر والقياس، بل سمع نداءً داخليًا يقول له: “كل ما في هذا المكان يقول: الله جميل.” وهنا تكمن عبقرية السرد؛ فريم بسيوني تتعامل مع العمارة كما يتعامل المتصوف مع الذكر: تكرار هادئ، إيقاع ناعم، يُحوّل الحجارة إلى تسبيح.
دون أن يُسلِم، ودون أن يتحدث بلغة القوم، يذوق ماريو شيئًا من نور الولاية، فيصير صورة جديدة من صور الصلاح، لا كداعية، بل كعاشق وملهم. وكأنما الروح التي سكنت المسجد سكنت فيه. بل كأن أبا العباس قد استقطبه لحلقته، كما استقطب المريدين من قبله. إنه تصوف جديد، لا بالأوراد فقط، بل بالبناء، لا بالعمامة، بل بالمحراب.
هكذا تمكنت ريم بسيوني من أن تمزج بين القرن السابع الهجري والنصف الأول من القرن العشرين الميلادي، لتقول لنا إن اللقاء بين قطب الصوفية وقطب المعمار، أبي العباس وروسي ،ليس شطحًا ولا جموحًا منفلتًا للخيال، بل هو حلقة من سلسلة روحية بدأت في الأزل. ولعلي أستطيع أن أفكك، وأن أستبصر ما ترمي إليه، وأن أرى لأي شيء ولأي معنى تومئ: تريد أن تقول إنهما قد التقيا هناك… في عالم الذر، حيث اجتمعت الأرواح أول مرة في رحاب الله… كل الأرواح، قبل أن يسكنها القادر الجبار الأجساد… هناك حيث لا زمن، ولا جغرافيا، لا دين بعد، ولا وطن، بل هوية واحدة: العبودية لله تعالى،قد إذن حصل العهد الأول بين أبي العباس وماريو، ولذا فإن بناء المقام ليس، بهذا المنظور، إلا وفاءً بذاك العهد القديم. ياله من إسقاط، وياله من بناء روائي ،ورب خيال هذا الخيال !!
ثم إن الرواية لاتقف عند هذه الحدود .هي لا تقدّم فقط شخصيتين، بل سوف تقدّم ما هو أبعد منهما: ستقدّم لنا رؤية للهوية المصرية: إنها ليست عِرقًا، بل تربة تستقبل الأرواح. “في مصر، يتساوى الغريب مع ابن البلد في ساحة الولي.” أبو العباس من مرسية، ماريو من فلورنسا، وكلاهما وجد في الإسكندرية وطنًا، كما وجد الشاذلي القادم من منطقة غمارة المغربية مقامه في حميثرة، وبيبرس المملوك السلطان ملاذه في دعاء الأولياء له… بسيوني لا تصوغ هوية مصر من رابطة الدم، بل من انصهار القلوب والأفئدة التي تهفو إليها.
لكن الرواية، رغم حداثتها، لا تفرط في روح التراث، بل تستدعيه بلغة معاصرة. نقرأ فيها سيرة الشيخين: الشاذلي وأبي العباس، لا كرموز مجردة، بل كأرواح تمشي، وتتحدث، وتؤثّر. ما يجعلهما في الرواية ليسا مجرد شخصيتين من الماضي، بل كائنين من نور، يخترقان الأزمنة، حاضرين بقوة، يبعثان الهمة، ويشحذان الإرادة، ويجعلان القارئ يتماهى معهما دون حواجز تاريخية.
وفي لقطة سردية مؤثرة، تزجّ الكاتبة بأبي العباس في قلب المعركة ضد الصليبيين، في سفره الرابع إلى المنصورة، ليضرب بالسيف، ويرمي بالرمح، ويقابل فتاة ملثّمة تنقذه من الموت، فإذا بها ابنة شيخه. هل وقعت هذه الأحداث فعلًا؟ لا يقول التاريخ ذلك. المرسي لم يكن جنديًا، لكن حضوره، وحضور شيخه بمعركة المنصورة ضد الصليبيين، مؤكد. لقد كانا يمثلان الروح السارية في الجند. الكاتبة مارست خيالها الروائي النبيل، فلبّسته الدرع، ومنحته السيف، لأن الكلمة والدعاء في مثل تلك اللحظات أشد مضاءً من الحديد. ومن حقها أن تفعل، ما دام الهدف تبيان الوجه الآخر للتصوف، الذي لا ينعزل عن الأمة، بل ينزل إلى ميدانها، يُبشّر بجهاد النفس، ثم يتلوه بجهاد العدو.
تُجري الكاتبة أيضًا حوارًا متخيلًا بين أبي العباس وبيبرس البندقداري. وأيضًا لا يؤكد التاريخ حدوث هذا اللقاء، كما يؤكد لقاء أبي جعفر المنصور بأبي حنيفة النعمان، والمعتصم بابن حنبل ببغداد مثلًا، لكنه ليس لقاءً مستبعدًا. فقد كان المماليك يجلّون الصالحين، ويرجون دعاءهم. وحتى إن لم يجتمع الاثنان في سجل المؤرخين، فقد جمعتهما الرؤيا الصوفية في رواية بسيوني. إنه من حق الروائي أن يملأ فراغات التاريخ بما يراه روحيًّا وجماليًّا، إذا التزم الصدق الفني وصفيت النية، وطهر الغرض.
في هذا اللقاء، يتجلى بُعد آخر من أبعاد المتصوف الحقيقي : عزوفه عن السلطان، وحرصه على ألّا يكون الدين مطيّة للسلطة. أبو العباس، كما رسمته الرواية، لم يقترب من الحكم، ولم يغتنم تقرب هذا الأخير إليه، بل ظلّ مخلصًا لتربية المريدين، ولخدمة النفوس وتزكيتها. لقد كان التزامه الحياد موقفًا في ذاته، لا هروبًا ولا انكسارًا.
وهنا أنفذ لأقول: إن شخصيات الرواية لم تكن جامدة، بل أرواحًا حيّة، اللغة تنساب بين الأزمنة انسيابًا، لا فواصل حادة بين الماضي والحاضر، بل تمازج لغوي وروحي ووجداني. الكل يفضي إلى الكل، كأنما أبطال الرواية ضيوف جميعًا على مائدة ريم بسيوني الأدبية. ولهذا سارت الرواية بإيقاع صوفي، وببطء مقصود، كأنك تمشي في فصولها في زقاقات تفضي إلى مقامات الأولياء، أو تدخل خلوة ذكر في زوايا روحية…. إيقاع هادئ، لكنه عميق، يملؤك بشعور الاقتراب من شيء مقدس. القراءة فيها ليست مجرد متابعة سردية، بل تجربة وجدانية فيها من التجلي ما يجعلك متصوفًا لحظيًّا، ولو لم تكن يومًا من أهل الطريق.
بهذا المعنى، فإن “ماريو وأبو العباس” ليست وصفًا لعالم صوفي، بل هي عيش له من الداخل… إنها لا تشرح التصوف، بل تمارسه. إنها تسير على هدي قاعدة صوفية أصيلة: “الذوق مقدّم على العلم.”
سيدتي ريم ، أقرّ لكِ أنكِ قد كتبتِ روايتكِ بتصوف لا تخطئه العين. أنتِ لم تدبّجيها بقلمكِ، بل بقلبكِ، ولا بيراعكِ بل بروحكِ. لغتكِ لغة متفجرة في نعومة، مثل الشلالات الصافية. لغتكِ ترواغ بين الحسي والتجريدي، والواقعي والذوقي، بين السرد والتأمل، بين التاريخي والتصوفي. لقد استخدمتِ طبقات من اللغة: وصفية للأحداث، تأملية للوجدان، رمزية للمواقف. لقد كنتِ تكتبين حكمًا روحية في شكل روائي، أو تستكملين مسيرة ابن عطاء الله السكندري، الذي نقل لنا مآثر شيخيه. روايتكِ أشبه بخلوة، بتسبيحة ممتدة، كل صفحة خطوة في طريق، وكل فصل تجلٍّ لمقام من مقامات السير إلى الله. لم تكتبي رواية عن التصوف، بل كتبتِ بتصوف… لكأنّ بركات الشيخين قد حلّت بفنائك، فألهمتك وأنشأت لكِ على نهجهم طريقكِ الأدبي.
وهنا أقول لك إن البناء السردي العبقري الذي اخترته يستحق منا ان نفرد له وقفة: الرواية تُقسّم إلى أسفار ووصول. وكل سفر ليس مجرد تنقل جغرافي، بل رحلة روحية، انتقال من مقام إلى مقام، من مرسية إلى تونس، إلى القيروان، إلى الإسكندرية، إلى القاهرة، واستقرار نهائي بالإسكندرية. وفي كل محطة، ينزع أبو العباس صفة من صفات النفس، ويتخلص من حجاب، ويخطو إلى مقام أعلى. إنه سفر النفس إلى الله، سفر التخلية والتحلية، كما يسميه أهل الطريق.
كل ذلك يُكتب بلغة أنيقة، متوتّرة بالوجد، خفيفة في ظاهرها، عميقة في باطنها: جمل قصيرة، دلالات مشحونة، معجم صوفي زاخر: الذوق، الفناء، النور، الغياب، الحضور، السر، السكينة…
لتلاحظوا معي ،أيها القراء ،انها تستدعي سير الأولياء، لكنها تعيد كتابتها بلغة اليوم، وتُنزلها في وجدانكم بلا تكلّف أو استعراض.
ولعل أعمق ما تشير إليه الرواية، دون تصريح، هو أنها تضع الأدب في قلب التصوف، أو لنقل: تجعل من الأدب طريقًا جديدًا للولاية. فأبو العباس مرّ من مسجد العطارين، وماريو مرّ من تصميمه، وريم مرّت من الكتابة عنهما. ثلاثة أشكال من الذكر: ذكر باللسان، وذكر بالفن، وذكر بالحرف.
“ماريو وأبو العباس” ليست مجرد رواية عن تصوف ومعمار، بل بناء روحاني يعيد تشكيل الذاكرة المصرية والعربية من الداخل، من مقام الولاية لا من بلاط السياسة. إنها رواية تُبنى كما يُبنى المقام: من حجر ناطق، ومن روح تتوضأ بالنور.
وها أنا أخرج من قراءتها كمن يعود من مقام حميثرة، وقد سمع النداء دون صوت، وشمّ العطر دون بخور. إنها ليست فقط عن شخصيات عظيمة، بل عن العظمة في النفوس إذا صدقت، وفي النفوس إذا تزكت، وفي الطرق إذا خلصت النية فيها، وفي الفعل إذا صار ذكرًا، وفي العمارة إذا أصبحت تسبيحًا من حجر.
رواية ماريو وأبو العباس تنتمي إلى نمط نادر في الأدب العربي الحديث، حيث لا تنفصل الفكرة عن الجمال، ولا العبارة عن الروح، ولا التاريخ عن الحاضر. إنها ليست فقط رواية تُقرأ، بل مقام يُزار، وخلوة تُعاش، وتجربة تُذاق. هي تصوف روائي، لا يعرف الفصل بين الفن والدين، ولا بين القلب والعقل، ولا بين المسلم والمسيحي، ما دام الجامع بينهما هو الجمال، والصدق، والبحث عن الله.
بذلك تكون ريم بسيوني قد قدمت عملاً أدبيًا صوفيًا فريدًا، لا يستعرض التصوف كحالة معرفية أو تاريخية، بل يعيشه كذوق، كإلهام، وكخيط سرّي يشدنا إلى أصل النور. لقد كتبت الكاتبة هذه الرواية وكأنها من أهل الطريق، وكأنها مريدة في محراب الكلمة، لم تتزين بلغتها، بل تواضعت بها، فجعلت منها سُلّمًا نحو الأعالي. رواية تُنهي قراءتها، فلا تخرج منها… بل تدخل بها إلى مقام آخر.
رحلة ماريو إلى الإسكندرية لم تكن مهنية فقط، بل رحلة من الخارج إلى الداخل، من فن العمارة إلى مقام الروح. ورحلة أبي العباس لم تكن فقط من مرسية إلى مصر، بل من الغربة إلى الحضرة، ومن السلوك إلى الوصول. والرواية نفسها، إنما هي سفينة ثالثة، تحملنا نحن، قراءها، من مجرد التلقي… إلى الذوق.
وبهذا تكون ماريو وأبو العباس قد أرست معلمًا جديدًا في أدبنا العربي:
معمار الحبر، ومحراب الحرف، وسفر لا ينتهي في أسرار الأرواح التي التقت أول مرة… في الأزل.
كاتب مغربي
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: