تالا زيد العتوم: رسالة من ذرة يورانيوم !

تالا زيد العتوم: رسالة من ذرة يورانيوم !

تالا زيد العتوم: رسالة من ذرة يورانيوم !

تالا زيد العتوم

كيف لي أن أبوح بمصيبتي بعد أن أصبح صوتي موتاً ولوني دماً وسمعتي عاراً وقهراً, وكيف سأنطق بوجعي ومن سيصغي لي إن قلت أريد حلاً, فقد كنت أرقد بسلام حتى نبشتني معاول المارقين وأهداف الحالمين, ثم خنقتني معادلات ورموز وأصفار المشعوذين, لقد فرحوا باكتشافي فليتهم تركوني تحت الأرض أتنفس الكبرياء والعفّة, اختاروا لي كنية ( U ( تلك التي لم ينتقيها لي أبي أو أمي , ثم سمَوني فلزاً وحبسوني في جدولهم الدوري البغيض, فتحوا بطني وشرّحوا قلبي وقطّعوه إلى إثنتين وتسعين قطعة, رأوني ابيضًا بعيونهم المتعطشة للأحمر و الأسود, سمعتهم يتهامسون بأنني مشعّ فهذه خلقتي وليس ذنبي, وإنني غير مستقرة لكنهم نسوا أن  من مختبراتهم قد تصاعدت الأشباح و اهتزّت الأرواح و فقدت البشرية استقرارها .
  منذ ذلك اليوم المشؤوم انفضحت سلالتي, و تشتت عائلتي و أدركت معنى الحرمان و اليتم, وضعوا على زنزانتي الرقم (235) و قد سال لعابهم أمامي حينها رغم ندرتي و صعوبة اعتقالي, ثم أفرغوا الزنزانة الأخرى لشقيقاتي ذوات الرقم (238)  وهم يضحكون لكثرتهنّ قرب جشع و شراهة أدمغتهم الشرسة, طلبوا مني توديع شقيقاتي و أبلغوني بأنه العشاء الاخير في قافلة السرّ الخطير, رفضتُ طلبهم الظالم فدفعونا عنوةً في أنابيبهم وأجهزتهم المجنونة بلا أي شفقة, جعلونا ندور و ندور بسرعة رهيبة بينما يديَ متشبثة بأيدي شقيقاتي المسكينات, لا زلت أتذكر دموعهنّ الصامتةُ عندما غلبنا شرّهم و هنّ يبتعدن عنّي, نظرت حولي فرأيت أنيابهم الحادّة تلمع و شفاههم تتغنى بجملة الكعكة الصفراء, التصقت أنا بمركز جحيمهم و ابتعدت شقيقاتي إلى حيث لا أدري, أغمضت عينيّ و دخلت في غيبوبة لم أفق منها إلا بعد عام كامل من التعذيب, اقترب مني بعض المتخفّين ببدلاتهم السميكة و وجوههم المكممة بإحكام, بدأوا بحفحفة رفاتي المتناثرة و رفات غيري و تجميعها في قوالبهم المخيفة, و عندما انتشر الظلام سكن الرجاء و انتحر الأمل, تيقنت عندئذ أنني في قطار اللاعودة وفي طريقي إلى    الهاوية.
        بعد بضعة أيام تعرَفت على رفيقة سجني وأنيسة وحدتي التي أتشارك معها نفس العلبة   الخانقة, سألتها إن كانت تعرف شيئاً فأخذت تتلعثم وترتعد من الخوف,  أخبرتني أنها اختلست النظر مرةً من علبتها السابقة فهالها ما رأت, ثم صمتت بحزن فتوسَلت إليها مراراً لكي تكمل حديثها وتبلغني بفاجعتها فاستجابت أخيراً, لقد شاهدت الآف السجينات المكبَلات يقفن بصمتٍ في صحراءٍ قاحلةٍ يندر فيها البشر والحجر, ثم أُطلق سيلٌ من الجسيمات على شكل رصاصاتٍ قاتلة إلى قلب إحداهنَ, فانفطر قلبها وخرجت منه رصاصات إلى قلب جارتها التي تمزق قلبها وهو يطلق ناره صوب جارة جارتها, ثم زلزلت الارض وانتشر الدمار وتصاعدت في السماء موجة عملاقة تشبه الفطر التهمت كل شيء, لقد انتشر الموت بعد ذلك واندثرت الحياة, لم يبق أيَ شيء بالمكان إلا و احترق.
أنا ذرة اليورانيوم, لا أريد أن تتصارعوا من أجلي, لا أريد أن يموت أحدكم بسببي, لا أريد تشويه الطفولة ونحر الأمومة, لا أريد أن تدخلوني في حروبكم المهلكة ومهاتراتكم المسمومة ومصالحكم المريضة, لا تجعلوا مني لعنةً لا تمحوها الأيام, أنا أرغب بالبقاء محايدةً ومنسيةً حيث شاءت الطبيعة أن تدفنني, أرجوكم أن تتركوني وشأني….!

الاردن
جرش

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: