
عمرو منير دهب
“لم يَشُدَّ إلى قيثارة الشعر وتراً جديداً، ولكنه عرف أن يُنطق الأوتار القديمة بنغمات جديدة مستعذبة، فأوتار العود معدودة، وهي هي، عدّاً ونوعاً، تحت أنامل العازف، ولكنّ كلّ عازف يفتنّ في النقر عليها ما شاء له الافتتان، فيسمعنا منها الجديد من الألحان، وألوان الشبح الشمسيّ واحدة، ولكن كلّ مصوّر يبتدع من مزيجها شتّى الألوان. وهكذا كانت أوتار القيثارة القديمة في يده تُخرج ألحاناً مستجدَّة في كل موضوع”.
يجيء أنطون الجميِّل بتلك اللمحة البارعة ضمن خطبة مختصرة ألقاها في حفلة أقيمت لتأبين شوقي في 4 ديسمبر 1932؛ والاقتطاف أعلاه عن البحث كاملاً تحت عنوان “شوقي شاعريّته ومميّزاتها” في كتاب “شوقي” لأنطون الجميل، النسخة الصادرة عن مؤسسة هنداوي سنة 2016.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: شاعر عظيم وكفى
تلك لمحة بارعة على الرغم ممّا ينقصها من الدقة كما سنرى بعد قليل، ومكمن براعتها أنها تنتبه/تنبّه إلى أن الشاعر العظيم لا ينبغي أن يكون مجدّداً بحيث يفترع أغراضاً أو أشكالاً شعرية جديدة بالضرورة، وإنما حسبه أن يبلغ القمة في ما هو موجود من تلك الأشكال والأغراض حتى إذا امتدّ ذلك الوجود لأكثر من ألف عام، بل تحديداً إذا امتدّ ذلك الوجود بعيداً إلى ذلك المدى في التاريخ، لأن تحدّي التجديد عندها يبلغ أقصى مستوياته من الصعوبة والسمو مع وجود شعراء عظام تربّعوا على وجدان المتلقين على توالي القرون.
في كتابه “أبي شوقي”، الصادر عن مكتبة النهضة المصرية سنة 1947، نسخة إلكترونية عن مكتبة جامعة برنستون، يقول حسين شوقي: “سألني حافظ (إبراهيم) بك مرة، في أثناء هذه الرحلات، وكنا قد فرغنا من تناول الطعام وشرعنا نتمشى في الطريق المؤدي من الهرم الأكبر إلى أبي الهول، قائلاً: أتقول الشعر؟ فأجبته: أجل ولكن قليلاً، فقال: إذن قل شيئاً في الهرم أو في أبي الهول فقلت: أيا هرمَيْ مصر سلامٌ عليكما… ولكنني لم أتمكن من تكملة البيت، عندئذ فكر حافظ بك لحظة ثم قال: سلامُ مشوق منذ خمس إليكما. وهو يقصد بالخمس السنوات الخمس التي قضيناها بالمنفى. كما أنشدته بضعة أبيات كنت نظمتها في مناسبة أخرى، فالتفت إلى أبي وقال: أتعلم يا شوقي أن ابنك يُرجى منه؟ عليك أن تتعهده ليصير شاعراً مطبوعاً، فأجاب أبي: إني أفضل أن يُعنى هو بالنثر لا بالنظم، لأن الشعر لا يتحمل الوسط، وحسين لن يبلغ فيه القمة”.
نتحفّظ نسبيّاً على رأي الأمير في المفاضلة بين الشعر والنثر، لأن النثر “الأدبي/الحقيقي” أيضاً لا يتحمل الوسط؛ وإذا كانت خصوصية الشعر كما هي رائجة تجعل بالفعل مهمة البروز فيه صعبة لشاعر متوسط الموهبة، فالأمر معلّق بالدارج من الأفكار المقولبة حول الأجناس الأدبية لا بطبيعتها الفنية الصرفة. ولكن برغم تحفّظنا النسبي ذاك، فإن إشارة الأمير تلك تشي بل تشير بوضوح إلى رؤيته عن النبوغ في الشعر الذي لا يتأتّى إلا ببلوغ القمة؛ فلم يشر الأمير – سواء في موضع الاقتطاف السابق أو غيره – إلى ضرورة افتراع أغراض/أبواب جديدة، وإنما ظلّ دوماً يرنو إلى القمة وإنْ – كما يُفهم ضمناً – عبر أبواب/نوافذ/فضاءات الأغراض والأشكال القديمة ذاتها.
لكن، وبالعودة إلى ما ذكرناه عن الدقة التي تنقص رأي أنطون الجميّل أوّلَ هذا المقال، هل اقتصرت عبقرية شوقي على الصعود بأغراض الشعر القديمة إلى ذراها الفنية فحسب؟ لا صريحة وكبيرة هي الإجابة بطبيعة الحال، فأشهر ما افترعه الأمير من تجديد في الأغراض تجلّى في الشعر التمثيلي ضمن مسرحياته الشعرية التي كانت آية في النظم وفي تقصّي بواعث الشخوص النفسية، وإنْ افتقدت براعة تفاصيل – وربما الخطوط العريضة أحياناً – للبناء المعماري من الوجهة الدرامية الخالصة، وذلك كما سنرى في مقام مستقل.
إلى ذلك، بل قبله تحديداً، نظم شوقي في مواضيع جديدة مرتبطة بالعصر الحديث، أو على الأقل ضمّن شعرَه تلك المواضيع، كالطائرة والباخرة والسيارة وغيرها؛ وارتبط في شعر مناسباته – الذي عابه عليه الناس ورددنا على تلك المعابة في مقال مستقل مضى – بدقائق مواضيع عصره روحاً لا شكلاً فحسب، والأهم فوق كل ذلك وفق أسلوب شعري عصري أصيل متفرّد.
القصيدة التالية في باب يصحّ أن يُسمّى “الإخوانيّات”، وإن يكن الغرض الأوسع الذي يدخل منه، ولا أظنه قديماً وأصيلاً في ديواننا الغنائي العربي، هو السخريّة أو الشعر الساخر، وهو غير الهجاء بطبيعة الحال، ويتطلّب شاعريّة تجمع بين العين اللاقطة واللسان اللاذع والخيال الشاسع والروح المكايِدة والسمحة في آن معاً. ننشق إذن في القصيدة أدناه نفحات التجديد – على سبيل المثال العابر جداً – دون صخب أو مزايدات؛ تجديد في الموضوع وفي الروح، بل في روعة الالتفات إلى الإحالات الدينية التاريخية ودمجها بسلاسة في القصيدة العصرية المجدّدة؛ أمّا تجديد اللغة فلم يقتصر على كلمات من قبيل “سيارة” أو “أوفرلاند” أو “بنزين” أو “طيارة” بقدر ما تجلّى في الأسلوب الشعري الذي هو ابتداءً سلس على عادة الأمير في تدفّقه المعهود، ولا يحتضن من الكلمات والتعابير – قديمها وجديدها – ما يمكن أن يتعثّر فيه قارئ معاصر:
لَكُم في الخَطِّ سَيّارَه ** حَديثُ الجارِ وَالجارَه
أَوفَرلاندُ يُنبيكَ ** بِها القُنصُلُ طَمّارَه
كَسَيّارَةِ شارلوت ** عَلى السَوّاقِ جَبّارَه
إِذا حَرَّكَها مالَت ** عَلى الجَنبَينِ مُنهارَه
وَقَد تَحرُنُ أَحياناً ** وَتَمشي وَحدَها تارَه
وَلا تُشبِعُها عَينٌ ** مِنَ البِنزينِ فَوّارَه
وَلا تروى مِنَ الزَيتِ ** وَإِن عامَت بِهِ الفارَه
تَرى الشارِعَ في ذُعرٍ ** إِذا لاحَت مِنَ الحارَه
وَصِبياناً يَضِجّونَ ** كَما يَلقَونَ طَيّارَه
وَفي مَقدَمِها بوقٌ ** وَفي المُؤخِرِ زَمّارَه
فَقَد تَمشي مَتى شاءَت ** وَقَد تَرجِعُ مُختارَه
قَضى اللَهُ عَلى السَوّا ** قِ أَن يَجعَلَها دارَه
يُقَضّي يَومَهُ فيها ** وَيَلقى اللَيلَ ما زارَه
أَدُنيا الخَيلِ يا مَكسي ** كَدُنيا الناسِ غَدّارَه
لَقَد بَدَّلَكَ الدَهرُ ** مِنَ الإِقبالِ إِدبارَه
فَصَبراً يا فَتى الخَيلِ ** فَنَفسُ الحُرِّ صَبّارَه
أَحَقٌّ أَنَّ مَحجوباً ** سَلا عَنكَ بِفَخّارَه
وَباعَ الأَبلَقَ الحُرَّ ** بِأَوفَرلاند نَعّارَه
وَلَم يَعرِف لَهُ الفَضلَ ** وَلا قَدَّرَ آثارَه
قَدِ اِختارَ لَكَ الشَلحَ ** وَما كُنتَ لِتَختارَه
فَسَلهُ ما هُوَ الشَلحُ ** عَسى يُنبيكَ أَخبارَه
كَأَنْ لَم تَحمِلِ الرّا ** يَةَ يَومَ الرَوعِ وَالشارَه
وَلَم تَركَب إِلى الهَولِ ** وَلَم تَحمِل عَلى الغارَه
وَلَم تَعطِف عَلى جَرحى ** مِنَ الصِبيَةِ نَظّارَه
فَمَضروبٌ بِرَشّاشٍ ** وَمَقلوبٌ بِغَدّارَه
وَلا وَاللَهِ ما كَلَّف ** تَ مَحجوباً وَلا بارَه
فَلا البِرسيمُ تَدريهِ ** وَلا تَعرِف نَوّارَه
وَقَد تَروى عَلى صُلتٍ ** إِذا نادَمتَ سُمّارَه
وَقَد تَسكَرُ مِن خَودٍ ** عَلى الإِفريزِ مِعقارَه
وَقَد تَشبَعُ يا اِبنَ اللَي ** لِ مِن رَنَّةِ قيثارَه
عَسى اللَهُ الَّذي ساقَ ** إِلى يوسُفَ سَيّارَه
فَكانَت خَلفَهُم دُنيا ** لَهُ في الأَرضِ كبارَه
يُهَيّي لَكَ هَوّاراً ** كَريماً وَابنَ هَوّارَه
فَإِنَّ الحَظَّ جَوّالٌ ** وَإِنَّ الأَرضَ دَوّارَه
ابتدع شوقي كذلك غرض شعر الحكمة التمثيلي على لسان الحيوانات، وتألّق في الكتابة للأطفال بشعر عميق في متناول خواطرهم الغضّة يفيد ويمتع الناضجين من الخاصة في آن معاً، وكتب عميقاً في التاريخ بحيث أفرد له قصائد مستقلة، واقتحم المواضيع السياسية غير مكتفٍ بالوقوف على حواشيها رغم ما كلّفه من عواقب قاسية بالنظر إلى التأرجح الحادّ الذي لم يكن له منه مناص بين قفص السلطان الذهبي وحضن الجماهير الرؤوم.
ليس التجديد إذن مجرّد أغراض شعرية تُفترع، أو إقحام لكلمات وأساليب لم تكن دراجة في قاموس الشعر وديوانه من قبل، وشوقي فعل ذلك على كل حال. التجديد روح مختلفة تنتظم ديوان الشاعر وسيرته الإبداعية كلها؛ والأهم من التجديد مجرّداً هو بلوغ القمة الأدبية من الوجهة الفنية الصرفة بالنظر إلى كل مكوّنات القصيدة/العمل الشعري، وهو ما دان لأحمد شوقي الذي أشفق على ابنه لأنه لم يره مهيّأً لذلك فثناه عنه؛ شاعرنا رأى – على الأرجح – أنّ من غير المنطقي أنْ يبلغ الأب الذروة فيسبق الأوّلين والآخرين ثم يأتي الابن من بعده ليجاهد على السفح.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])