
غالباً ما أدت الأزمات الجيوسياسية لهبوط مؤقت في الأسهم دون تأثيرات طويلة المدى
لطالما تصدرت المخاطر الجيوسياسية قائمة مخاوف المستثمرين، العام الماضي، وفقاً لاستطلاعات الرأي المتكررة.
وخلال الأشهر الأخيرة، أصبحت عبارة “المخاطر الجيوسياسية” تعبيراً ملطفاً عن السياسات الجمركية الأمريكية غير المتوقعة، وهو التعبير الذي تفضله المؤسسات الأمريكية التي لا ترغب في استفزاز البيت الأبيض بشكل مباشر.
لكن الخطر الجيوسياسي الذي بات يتجسد حالياً هو من النوع التقليدي، والمتمثل في تهديد صراع طويل الأمد في الشرق الأوسط يعرض إمدادات النفط العالمية للخطر.
وقد ارتفعت أسعار النفط بنسبة وصلت إلى 12% فور الهجمات التي شنتها إسرائيل على منشآت نووية إيرانية، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ومع تصاعد حدة النزاع خلال عطلة نهاية الأسبوع وبداية الأسبوع الحالي، استهدفت إسرائيل، إلى جانب أهداف أخرى، محطة نفطية رئيسية في طهران.
وتُنتج إيران نحو 3.3 مليون برميل من النفط الخام يومياً، تُصدر منها قرابة 2 مليون برميل.
وبحسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة، يبلغ الطلب العالمي على النفط نحو 103.9 مليون برميل يومياً، فيما تشير التقارير إلى أن السعودية والإمارات قادرتان على زيادة الإنتاج بسرعة بأكثر من 3.5 مليون برميل يومياً، ما يعني أن حتى تعطل كبير في إنتاج النفط الإيراني يظل أمراً يمكن التعامل معه.
ومع ذلك، فإن الارتفاع الفوري في الأسعار عقب الضربات الإسرائيلية الأولى عكس مخاوف أوسع من إمكانية تصاعد الصراع إلى حدّ قيام طهران بإغلاق مضيق هرمز أمام ناقلات النفط، أو حتى شنّ هجمات على منشآت نفطية تابعة لدول الجوار.
ويُظهر بحث مهم صادِر عن البنك المركزي الأوروبي عام 2023، أنّ العلاقة بين حالة عدم اليقين الجيوسياسية وأسعار النفط والمؤشرات الاقتصادية الكبرى ليست مباشرة أو بسيطة.
فقد قفز سعر خام برنت بنسبة 5% مباشرة بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية في نيويورك، حين سادت مخاوف من اندلاع حرب في الشرق الأوسط تُهدد الإمدادات.
لكن الأسعار انخفضت بنسبة 25% خلال أسبوعين فقط، عندما طغت المخاوف من تباطؤ الاقتصاد العالمي على المشهد.
وبالمثل، ارتفعت أسعار برنت بنسبة 30% في الأسبوعين التاليين للحرب الروسية ضد أوكرانيا في فبراير 2022، لكنها عادت إلى مستويات ما قبل الغزو خلال ثمانية أسابيع فقط.
يوضح البحث أن الصدمات الجيوسياسية تؤثر على الاقتصاد العالمي من خلال مسارين.
في الأجل القصير، يظهر تأثير ما يُعرف بـ”مسار المخاطر”، حيث تسعر الأسواق المالية احتمالات حدوث اضطرابات إضافية في إمدادات النفط العالمية، ما يزيد من “عائد الملاءمة” لعقود النفط، أي القيمة النقدية للاحتفاظ بهذه العقود، وبالتالي يدفع الأسعار إلى الارتفاع.
أما على المدى البعيد، فيدخل “مسار النشاط الاقتصادي” حيز التنفيذ؛ إذ تؤدي التوترات الجيوسياسية إلى صدمة سلبية في الطلب العالمي نتيجة تراجع الثقة وتأجيل الاستثمارات وتباطؤ الاستهلاك، وقد يتسبب ذلك أيضاً في اضطرابات تجارية.
وغالباً ما يؤدي هذا المسار إلى تراجع الطلب العالمي على النفط وانخفاض أسعاره.
وبعبارة أخرى، فإن الضغوط السعرية الناتجة عن الصدمات الجيوسياسية تميل لأن تكون قصيرة الأجل.
لكن هذا النمط لم يكن ثابتاً دائماً. فصدمتا أسعار النفط في عامي 1973 و1979 تبعتهما حالتا ركود في الولايات المتحدة، ولا تزال احتمالات حصول صدمة نفطية ناتجة عن عوامل جيوسياسية قادرة على زعزعة الاقتصاد العالمي مصدر قلق لصنّاع السياسات والمستثمرين.
غير أن دراسة صادرة هذا العام عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس توفر بعض الطمأنينة.
فقد اعتمد الباحثون نهجاً جديداً لفصل تأثيرات حالة عدم اليقين المرتبطة بأسعار النفط عن تلك المرتبطة بعدم اليقين الاقتصادي العام.
وتوصلوا إلى أن مخاطر أسعار النفط الناجمة عن التوترات الجيوسياسية من غير المرجح أن تُنتج آثاراً ركودية كبيرة، حتى إذا تضاعفت المخاطر لتوازي ما جرى عامي 1973 أو 1979، فإن النموذج يتوقع تراجعاً في الناتج الاقتصادي لا يتجاوز 0.12%.
رغم أن ارتفاع حالة عدم اليقين بشأن مستقبل إمدادات النفط قد يؤدي إلى زيادة في الأسعار على المدى القصير، فإنَّه ما لم تتحقق هذه المخاطر فعلياً، فإن الأثر الاقتصادي الكلي العالمي سيكون محدوداً.
ينطبق الأمر ذاته على أسعار الأصول المالية عموماً.
فوفقاً لأحدث “تقرير الاستقرار المالي العالمي” الصادر عن صندوق النقد الدولي، فإن الأحداث المرتبطة بالمخاطر الجيوسياسية منذ الحرب العالمية الثانية ارتبطت عادة بتراجع طفيف في أسعار الأسهم على المدى القصير، دون أن تخلف آثاراً طويلة المدى في معظم الحالات.
وقد تمكنت الأسواق المالية العالمية من تجاوز تداعيات غزو العراق للكويت في 1990، وكذلك الحرب الروسية ضد أوكرانيا في 2022.
إلا أن عام 1973 يظلّ استثناءً بارزاً، إذ تسبب الحظر النفطي آنذاك في هبوط حاد لأسواق الأسهم العالمية بعد عام واحد.
بالطبع، سيعتمد الكثير من الأمور على مدى طول أمد النزاع بين إسرائيل وإيران ومدى تصعيده.
ومع ذلك، ينبغي التذكير بأن أسعار النفط استقرت بعد صدمة أولية حتى خلال “حرب الناقلات” في ثمانينيات القرن الماضي، عندما تم استهداف أكثر من 200 ناقلة نفط كانت تمرّ عبر مضيق هرمز أثناء الحرب بين إيران والعراق.
لذا، فإن أي تأثير على الأسواق العالمية سيظل محدوداً ما لم تحدث اضطرابات كبرى في إنتاج النفط في منطقة الشرق الأوسط.