عدي عدنان البلداوي: علاقة الانسان بالدين في القرن الواحد والعشرين

عدي عدنان البلداوي: علاقة الانسان بالدين في القرن الواحد والعشرين

عدي عدنان البلداوي: علاقة الانسان بالدين في القرن الواحد والعشرين

 
 
عدي عدنان البلداوي
هناك كثير من نقاط الضعف حول العالم، لكنها لا تدعو الى القلق بحكم صفة التغيير الطبيعية في كل مجتمع. لكن المقلق هو تأثير الأعراض الجانبية لنقاط الضعف تلك في انسنة الوجود البشري في عالم تقني، رقمي، آلي، وذكي.
من تلك الأعراض الجانبية لنقاط الضعف حول العالم، ميل بعضهم الى اختيار الثقافة الأنسب بدلاً عن الثقافة الأفضل، لأن التطور العلمي والنمو الإقتصادي، وتغير مفهوم علاقة السلطة بالفرد والمجتمع، وظهور شركات واسواق عابرة للحدود الجغرافية والقومية واللغة، جميعها تدفع بإتجاه تشكيل أفكار الناس وانماط معيشتهم في ضوء ما يخدم حركة حياتهم المعتادة، بحيث لا يجدون ضرورة ملحة تدعوهم للتمسك بمعايير وأخلاقيات وتشريعات متوارثة ومتعارف عليها. بل لعلهم يجدون ما يسوغون به عدم التزامهم او عدم تمسكهم بتلك المعايير.
العوامل الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والدينية والثقافية تؤدي دوراً ملحوظاً في تشكيل صيغة العلاقة بين الفرد وبين محيطه بكل مكوناته من طبيعة وافراد وسلع وأفكار، فكانت حزمة الاخلاق والعاطفة والطيبة والالتزام الأدبي والالتزام الديني ، فضلاً عن الطابع الإنساني الفطري الذي يطبع علاقة الفرد بالآخرين ، تؤثر في علاقة الفرد بحاجاته وممتلكاته ، فقد كانت السلعة التي يستهلكها تحظى بقدر اكبر من مجرد كونها سلعة ، لتغدو جزءاً مرناً وحيّاَ في حياة الشخص . كان الفرد يحتفظ بالسلعة حتى بعد انتهاء صلاحيتها للعمل الذي أعدت لأجله ، لأنها تحولت الى جزء من ذاكرته وذائقته . لم يعد هذا الجو يشكل اليوم بيئة ملائمة بعد ان شغلت المادة والحاجة مساحة اكبر في علاقة الفرد بمحيطه من مساحة العاطفة والذائقة.
انسحب هذا على علاقة الشخص بدينه وتراثه وثقافته، حيث أخذت هذه العلاقة فهماً إجتماعياً آنياً يعتمد لغة التبرير عوضاً عن لغة التفكير، فما وافق هوى النفس ومتطلبات المرحلة الحياتية إقتصادياً وإجتماعياً ، كان أولى بالقبول وان تقاطع هذا القبول مع منظومة الأعراف والشرائع والعادات والأخلاق.

التطور العلمي المتسارع:
 التسارع هو ميزة التطور العلمي في القرن الواحد والعشرين. وقد وظف النظام السياسي العالمي الجديد هذه التقنية المتطورة في توجيه انظار الأفراد الى مجتمعاتهم من الداخل، بعد ان حفز فيهم فكرة التطوير والتغيير من خلال المساحة الكبيرة التي هيأتها عالمية استخدام التقنية الرقمية لحرية التعبير وحرية التفكير وحرية الاختيار، فظهرت في المجتمعات محاولات جريئة لايجاد فرص تغيير مستحدثة لا تتورع احياناً في تجاوز بعض ثوابت المجتمع من اخلاق وثقافة ودين، هكذا تبدأ عملية تفكيك اي مجتمع لإعادة بنائه على وفق أجندات عالمية تأخذ بعين الإعتبار مصالح المشاريع الكبرى لسياسات الإقتصاد الصناعي الثقافي العالمي، التي كثيراً ما تتقاطع مع ثوابت المجتمع العربي، خصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة الانسان بالدين.  فالنظام العالمي الجديد هو نظام سياسي، علمي، رقمي، اقتصادي، وتجاري. يستثمر في مجالات الحياة المادية وحتى الثقافية منها. ولكي لا تؤثر نقاط تقاطع اهداف المصالح الكبرى مع ثوابت المجتمع، فقد وُظفت تقنية العصر في تقديم عروض الكترونية فيها من الغرابة ومن التشويق ومن الخروج على المألوف ومن التزييف ما يشد الانتباه .
هناك ملايين من الإعجابات الوهمية التي تنتجها صفحات وهمية وحسابات وهمية على الفيسبوك مثلاً . كثيراً ما تستهدف هذه الإعجابات شرائح معينة في المجتمع وخصوصاً الشباب ومحدودي الوعي وقليلي الخبرة و.. ، وكثيراً ما تكون مدفوعة الثمن من اجل انتاج اخبار كاذبة ومعلومات مزيفة ، هدفها تغييب وعي الفرد أو اثارته عقائدياً أو عشائرياً أو ثقافياً. فهي تنفذ من خلال هذه الإثارة وذاك التشويق لتمرير صور ومقاطع فديو ونشرات وعبارات لا يراد لها ان تؤتي أكلها آنياً بقدر ما يراد لها ان تطرح ثماراً مهجنة ومدجنة بمرور الوقت. منها مثلاً  إضافة مقطع صوتي لإنشودة وطنية عربية على مقطع فديو يظهر عدداً من الفتيات الجميلات وهن يستعرضن بملابس مثيرة  !! ومنها أيضاً مقطع فديو يظهر فيه عدد من النساء المتبرجات في نادي ثقافي او كافتريا عائلية وهن يحتسين القهوة في صالة النادي على صوت انشودة دينية !! .
المستقبل ليس قدراً ينتظرنا، أو ننتظر . المستقبل اختيار نصنعه نحن في حاضرنا. فإذا ما علمنا ان الجيل الجديد اليوم هو اكثر دراية بمصادر التكنلوجيا واقل دراية بمنابع المعرفة الرئيسة. واذا ما علمان ان من حقه أيضاً ان يفهم الحرية فهماً يناسب عصره. فإن من حق هذا الجيل علينا ان نحافظ له على المواد الأولية الأساسية اللازمة لإنتاج فهم صحيح للحرية بحكم الخبرة والحكمة والمعرفة  والمسؤولية الثقافية، وإلا كنا سبباً في حمل ابنائنا على صناعة حرية قد تشكل خطراً على سلامة حياتهم .
إننا بحاجة اليوم الى استخدام العلم الحديث في إعادة النظر الى الماضي من أجل إعادة بناء أكبر عدد ممكن من صفحات تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بشكل يجعلنا متواصلين مع ذلك الماضي ، لا بمعنى ان نعيش حاضرنا بجلباب الماضي ولكن بمعنى الامتداد الحي الذي يغذينا ليكون لنا بصمتنا المعاصرة في صناعة ثقافتنا . فمن دواعي التجديد ، استخدام أدوات العصر الحديثة في إعادة النظر الى الموروث القديم من افكار وعادات واعتقادات .  فمن حق الجيل الجديد ان يعيد طرح الاسئلة القديمة بلغة عصره الجديدة، ومن حقه على الثقافة المعاصرة ان لا تقابل استفهاماته بالتعجب او بالاستغراب او بالاستهجان ، كما ان من حق ثقافة التراث على الجيل الجديد ان ينطلق في استفهاماته من باب التوثيق لا من باب التلفيق، لكي لا تدخل الثقافة في فوضى تنتهي فيها كقوة حيوية فاعلة قادرة على إعادة تنظيم طريقة حياة المجتمع .ٍ من تلك الإستفهامات التي تواجهها الثقافة العربية المعاصرة اليوم : ما مدى حاجتنا الى الدين في عصر يتولى فيه الذكاء الاصطناعي تقديم حلول لمشاكلنا، وتقديم اجوبة مقنعة لتساؤلاتنا؟
هل لا يزال بوسعنا كمسلمين معاصرين ان نواكب حضارة الغرب الرقمية الذكية بطقوسنا وشعائرنا الدينية؟
هل تسهم ثقافة العمل الاقتصادي والتجاري وتبادل الخبرات الفنية والعلمية والثقافية مع بلدان العالم المتقدم، في تغريب الثقافة العربية والخروج من الدين في واقع حياتنا الاجتماعية الجديدة؟

المزاج الرسمي:
في البلدان التي يتحكم فيها المزاج الرسمي في صناعة قوانين تخدم التسلط السياسي والإداري للأنظمة الحاكمة على حساب العدالة الإجتماعية. يحتاج الفرد الى قوة يحتمي بها من تداعيات هذا المزاج الرسمي ، وفي مجتمعاتنا العربية يمثل الدين القوة الأفضل التي يحتاجها الفرد للتمسك بها مقابل تمسك السلطة بقوة السلاح وسطوة القانون ، فالدين يمثل قوة صديقة، نظيفة، وآمنة يظمأ لها العربي المسلم كي يروي بها خوفه من السلطة.
يقول الفيلسوف الامريكي المخضرم بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين (وليام جيمس): (ان جوهر الديانة هو الإيمان بالبقاء وان هذا البقاء مرهون بوجود قوة صديقة للانسان وراء الظواهر الكونية او المادة العمياء).
 تدري السلطة الحاكمة بنظافة قوة الدين وتدري بمدى قوة علاقة الفرد بالدين، وعلاقة المجتمع بالدين، لذا دعمت حضور هذه القوة في المجتمع ووظفت وعاظها ليكونوا حلقة إتصالها بالناس ، واحلت فكرة العبودية محل العبادة ، وروجت لها على السنة اولئك الوعاظ، لأن عبادة العبيد هي الفكرة الأنسب لاهداف العقل السياسي المتسلط في المجتمع الديني. ولأن فرض الأمن من متطلبات ديمومة التسلط ، فقد وظفت السلطة الحاكمة دعوات الدين الى حفظ الأموال والأنفس والحقوق في جانب عبادة العبيد، لا في جانب عبادة الأحرار. فأمرت وعاظها بأن يتحدثوا الى الناس عن الحاكم المسلم. خليفة الله في الارض وأمير المؤمنين  واوجبت طاعته . وعدّت من ينادي بعبادة الأحرار معارضاً لها ، واتهمته بإخلال الامن وبالإضرار بالمصلحة العامة واتهمته أيضاَ بازعاج السلطات وانتهاك القوانين . هكذا تم اعتقال كثير من المفكرين الأحرار والمصلحين الثوار وغيّب جوهر الدين ، وبمرور الوقت أخذ دين السلطة الحاكمة مكانة الدين الذي (وصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون ) سورة البقرة الآية 132 ..  وفقد المجتمع العربي المسلم المعاصر قدرته على صناعة حضارة كان قد صنعها أجدادهم من قبل . واقتصرت علاقة كثير من الناس بالدين ، على طقوس يشعرون وهم يؤدونها انهم في مأمن من مزاج السلطة الحاكمة ، وقوى الشر الناتجة عن فشل قوانين الدولة في جعل العدالة الإجتماعية ايقونتها المعاصرة . وليس ادل على ذلك من كثرة حالات العنف الأسري وجرائم القتل وحالات الانتحار وحالات التنمر والمحتويات الهابطة وعمليات الابتزاز والسرقة و .. و … تكمن المشكلة في الخلل الواضح في قدرة تفكير العقل السياسي العربي إزاء ثلاثية العدالة والمحكمة والشارع مثلاً . فالمحكمة هي مكان تحقيق العدالة ، بينما الشارع هو مكان تطبيق هذه العدالة . وما من مواطن عربي إلا ويدرك هذا الخلل . إذ ان هناك واقع منحرف في هيكلية الجهات المتنفذة سواء بشكل رسمي او بشكل خاص .
 ان تحول العربي المسلم سياسياً من مرحلة السلطة الظالمة والدكتاتورية في بعض البلدان مثل العراق حيث الخوف ، الى مرحلة السلطة الفاشلة حيث القلق في العقود الأخيرة ، قد تسبب في انتقال التفكير من حالة التخوف من الحركة الى حالة اضطراب الحركة ، وبدخول مفهوم الحرية على موجات البث الالكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي ، يكون الفرد العربي قد دخل الى مرحلة اللاادرية الثقافية . ومثلما هيأت وسائل التواصل الإجتماعي ومواقع الانترنت مساحة حرة للتفكير . كذلك كان للتكفير مساحته المخيفة .
 من هنا انطلق بعض المثقفين المعاصرين باتجاه اتهام الدين بتأخر المجتمع . ومنهم من اتهم السياسة في ذلك .  منهم من دعا الى ضرورة تهميش الدين في الدولة والمجتمع وجعل الطقوس الدينية حق فردي يمارسه الشخص داخل بيته وليس له هذا الحق في الشارع . منهم من دعا الى الخروج من الدين كونه لم يعد قادراً على انتاج حضارة ، وان لا حاجة الى الدين في عصر العلم الحديث والتقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي الذي بات قادراً على تقديم اجابات عن مختلف الأسئلة التي يحتاجها الانسان المعاصر .
بدون ظهور آلية ثقافية جديدة معنية بتحقيق أجواء الإستقرار النفسي والعاطفي والعقلي لشخصية الفرد المعاصر في وقت تعمل فيه مشاريع عالمية على الإستثمار في الدين والثقافة  ، فإن الدين سيعود غريباً كما بدأ.
كاتب عراقي

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: