رانية مرجية: غزة… حين تُغني الجراح بصوت البحر

رانية مرجية: غزة… حين تُغني الجراح بصوت البحر

رانية مرجية: غزة… حين تُغني الجراح بصوت البحر

 
 
رانية مرجية

كلما ذُكرت غزة، أشعر أن قلبي يغوص في موج متلاطم، لا ساحل له ولا شاطئ. مدينة تحفر في صدري أخاديد من الحنين والحزن والعجز، لكنها في كل مرة تنهض من الركام، كما في الأساطير، كطائر الفينيق، تزيل الرماد عن أجنحتها، وتعلو فوق الخراب.
غزة، يا وجه الوطن المضمّد بشظايا الصواريخ، كم مرة متِّ وقُمتِ؟ كم مرة وُئدتِ في وضح الحصار، ثم تنفستِ من شقّ نافذة في جدار؟
أكتبكِ اليوم يا غزة لا لأنكِ قصة، بل لأنكِ الحقيقة التي نخجل من مواجهتها، أنتِ ضميرنا المصلوب، جرحنا المفتوح، صمتنا الفاضح، وذاكرتنا التي ترفسنا كل صباح.
 

غزة لا تُكتب كما تكتب المدن الأخرى. لا تصلح معها لغة التجميل ولا مفردات الغزل البارد. هي ليست قصيدة حب، بل عويل أم، وارتعاشات طفل يرتجف تحت بطانية مهترئة في ليلةٍ بلا كهرباء.
غزة لا تعرف النوم، وإن نامت، تنام على زئير الطائرات، وعلى أصوات انهيار البيوت. وإذا حلمت، فإنها تحلم بالنجاة، لا بالبحر ولا بالشِعر.
في غزة، لا أحد يسأل: “ماذا ستفعل غداً؟”، لأن الغد، هناك، ترف لا يملكه أحد. الغد في غزة فكرة افتراضية، مؤجلة على الدوام، مرهونة بهدنة لا تدوم أكثر من نشرة أخبار.
 

في غزة، لا تمشي الحياة على قدمين، بل على عكاز من صبر، وعلى قلب مكسور يُعاد لَحمه كل فجر بصوت المؤذن، وركعة مقاومة.
في غزة، تقف الفتاة الصغيرة أمام المرايا المكسورة، تسرّح شعرها المتشابك بأصابعها، وتعدّ الأيام حتى يعود والدها من السجن أو الحرب، أو من الغياب الذي لا عنوان له.
وفي غزة، حين يولد طفل، لا يُسأل عن وزنه ولا عن ابتسامته الأولى، بل عن مكان ولادته: هل كانت في بيتٍ مهدم؟ في مدرسة؟ في خيمة؟ أم في حُلم؟
كل طفل في غزة شاعرٌ قسراً، ومقاوم بالفطرة، ونازفٌ دون أن يعرف ما هي الطفولة.
 

زرتُ غزة مرة، أو هكذا خُيّل لي، عبر ذاكرة صديقتي التي كانت تسكن شارع الوحدة، ونجت بمعجزة من القصف. كانت تحكي لي عن علبة الحلوى التي لم تفتحها، لأن الطيران سبقها، وعن شجرة الليمون التي كانت تسقيها جدتها كل صباح، ثم تسقيها الدموع كل مساء.
قالت لي: “في غزة، يا رانية، نمشي بين القبور كأنها أرصفة. نعدّ أسماء شهدائنا كما تعدّون أنتم أسماء موائدكم في الأعياد”.
فهمت عندها أن غزة لا تتحدث بالعربية فقط، بل بلغة الدم والملح والصبر الأسود.
 

هل تعرفون ماذا يعني أن تكون غزيًّا؟
يعني أن تتقن فن العيش بلا ماء ولا كهرباء ولا ممرات آمنة، أن تُشعل الشمعة كي تدرس، وتُطفئ الحلم كي تعيش.
أن تحب وأنت تعرف أن من تحب قد يختفي في لحظة.
أن تمشي نحو البحر، لا لتستجم، بل لتصرخ…
غزة ليست معزولة عن العالم، بل العالم هو من عزل نفسه عنها. غزة ليست محاصَرة، نحن المحاصَرون في خذلاننا.
غزة لا تفتقر إلى الحياة، نحن الذين افتقرنا إلى ضمير يُنقذ الحياة فيها.
 

أكتبكِ يا غزة، لأني أخجل من صمتي ومن عجزنا الجمعي.
أكتبكِ لأنكِ لست مجرد جغرافيا من نار، بل كينونة كاملة من المعنى.
أكتبكِ، لا لأرثيكِ، بل لأشهد أنكِ الحيّة في زمن الأموات.
أكتبكِ لأقول إنكِ لست مأساة فقط، بل مقاومة. لست خرابًا فقط، بل عِمارة من الأمل.
أكتبكِ لأني أحبكِ، ولأن حبكِ وجع، ووجعكِ كرامة، وكرامتكِ لا تُشترى.
 

في آخر الليل، حين يسكن الضجيج، أسمع همسكِ من بعيد،
يا غزة…
صوتكِ يشبه صلاة، أو صراخاً، أو ربما وطنًا يناديني من وجعه.
وكلما حاولت أن أهرب منكِ، وجدتني أكتبكِ أكثر.
لأنكِ الحقيقة التي لا يمكن نفيها،
ولا يمكن إسكاتها،
ولا يمكن إلا أن نحبها… حتى الرمق الأخير.
 

 
 
رانية مرجية – تلفون 7077060-054
كاتبة اعلامية  وموجهة مجموعات

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: