بقلم : برعلا زكريا
يحمل عيد الأضحى المبارك هذا العام سمات استثنائية، تطرح متغيرات لم تألفها الحياة العامة من قبل. ولعل في طيات هذه المتغيرات فضائل وبركات لم تكن في الحسبان، تستدعي التأمل والنظر العميق. ففي ضوء توجيهات سامية بعدم إقامة شعيرة ذبح الأضاحي على النطاق المعهود، ينتظر أن يشهد هذا العيد تحولا في بعض مظاهره الاجتماعية والاقتصادية. وهو توجه يستند إلى فقه النوازل، الذي يراعي المصالح العليا للبلاد والعباد.
يهدف هذا الإجراء إلى حماية الثروة الحيوانية الوطنية، التي ربما أنهكتها تحديات مناخية أو اقتصادية. وفي الآن ذاته، قد يسهم في صون القدرة الشرائية للمواطن أمام تقلبات الأسعار أو ممارسات بعض الوسطاء الجشعين، المعروفين بـ”الشناقة”. ومع أن العيد مناسبة أصيلة للفرح والاحتفاء، فإن ضمير الأمة يجد نفسه اليوم مثقلا بمسؤولية أخلاقية عميقة.
بهجة العيد يشوبها شعور بالتقصير، إزاء آلام إخوة لنا يمرون بمحن قاسية. فكيف يطيب الاحتفال الكامل، وأجزاء من الجسد الواحد تئن؟
فبينما يستعد الكثيرون لاستقبال العيد، تتوالى فصول الأزمات الإنسانية في غزة والضفة الغربية، وتستمر المعاناة في سجون الاحتلال.
هناك، تتجاوز الممارسات القمعية كل ما عرفه التاريخ من سادية وقسوة ووحشية، مما يضع عبئا ثقيلا على الوجدان الإنساني.
إن القلوب لتعتصر ألما لما يكابده أهلنا هناك من ويلات. صور المعاناة اليومية، وأرقام الضحايا المتزايدة، والواقع المرير للحصار والتجويع ونقص أبسط مقومات الحياة، كلها مشاهد حية تجعل من الصعب الشعور بلذة طعام أو بهجة مناسبة.
ونحن نرى بأم العين مرارة الجوع تعتصر بطون إخوة لنا، لا حول لهم ولا قوة إلا بالله.
وفي سياق متصل بهذه المتغيرات، من المرتقب أن تغيب هذا العام بعض المشاهد التي صاحبت فولكلور العيد في سنوات خلت، والتي لم تكن تبعث على الارتياح.
فمن منا لم يعاين ازدحام أسواق الأضاحي، حيث يختلط صخب المساومات بضجيج يصل أحيانا حد الفوضى؟ ومن لم يلحظ نشاط أياد عابثة، أو ممارسات بعض الوسطاء لأشكال من الابتزاز والغش، محولين لدى البعض فرحة الاستعداد للعيد إلى تجربة مرهقة ومكلفة؟ بل من منا لم يسمع عن تلك الحوادث المؤسفة، من عنف أو تجاوزات، كانت تندلع أحيانا في بعض الأسواق الموسمية؟
هذا العام، قد تتنفس شوارعنا الصعداء بشكل مختلف. قد تغيب تلك المظاهر المقلقة من فوضى عارمة أو مخلفات متناثرة في الطرقات والأزقة.
ولعل الهدوء الذي قد يشهده العيد هذه السنة، وما يصاحبه من سلام اجتماعي، يتحول إلى احتفالية ذات قيمة مضافة. وقد ندرك أخيرا أن في النظام والسكينة شعورا بجوهر العيد ووجه من مقاصده.
ولن تقتصر الفضائل المتوقعة، إن تحققت، على الجانب الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل قد تمتد لتلامس صميم بيئتنا وصحتنا العامة.
ففي كل عيد أضحى سابق، كانت مدن وقرى تشهد تحديات بيئية جراء تراكم المخلفات المرتبطة بالأضاحي في الطرقات والمجال الأخضر، وانتشار روائح تزكم الأنوف.
إن هذا التخلص غير المنظم من المخلفات كان يؤدي إلى تلوث بصري وبيئي واضح، ويشكل عبئا كبيرا على عمال النظافة. ناهيك عن المخاطر الصحية التي قد ترتبط بعمليات ذبح غير مراقبة بشكل كامل في كل مكان، والتي قد تتسبب أحيانا في انتقال بعض الأمراض.
هذا العام، قد تبتسم شوارعنا بشكل مختلف في مثل هذه المناسبة. ولعلنا ندرك أن من بين الهدايا الكبرى التي يمكن أن نقدمها لمجتمعاتنا في هذا العيد هو الحفاظ على نظافتها وسلامة بيئتها. أما عن سلامة الأجساد، فكم من يد كانت تتعرض للإصابة، وكم من جرح كان ينزف خلال معمعة الاستعدادات والتعامل مع الأدوات الحادة؟ في كل عيد أضحى تقريبا، كانت أقسام المستعجلات في المستشفيات تستقبل حالات من ضحايا التسرع، أو التعامل غير الحذر مع الأضاحي وأدوات الذبح.
وغالبا ما كانت هذه الحوادث نتيجة نقص الانتباه أو العشوائية في التعامل مع تلك الأدوات. هذا العبء الإضافي كان يثقل كاهل قطاع صحي يعاني أصلا من الضغوطات.
هذا العام، قد تخفت وتيرة هذه الحوادث، وتهدأ مرافق الطوارئ نسبيا من هذا النوع من الإصابات.
وستشمل هذه الفضائل المحتملة، بصورة غير مباشرة، أولئك الذين يعانون بصمت. فكم من مريض، يعاني من حالات صحية مزمنة كأمراض القلب والسكري وارتفاع الكوليسترول أو النقرس، كان يجد نفسه أمام تحد كبير خلال أيام العيد بسبب الوفرة المعتادة للحوم الحمراء، خاصة الدهنية منها، وما قد يكون لها من عواقب صحية عليه.
في كل عيد سابق، كانت رائحة الشواء المتصاعدة من كل بيت، تمثل إغراء قد يصعب مقاومته، وتختبر صبر هؤلاء المرضى، بل وتضعف عزيمتهم أحيانا، مما قد يعرضهم لمتاعب صحية.
قد يتنفس هؤلاء المرضى الصعداء بشكل مختلف. فغياب أو قلة تلك الرائحة الفاتنة التي كانت تذكرهم بما هم محرومون منه صحيا، قد يحل محله هدوء وراحة نفسية. قد يكون هذا العيد بمثابة استراحة صحية لهم، بلا إغراءات قوية ولا تحديات غذائية كبيرة.
ولن يقتصر هذا التخفيف المرتقب لوطأة العيد على جوانب دون أخرى، بل سيمتد أثره ليشمل نفوسا وقلوبا لطالما أثقل كاهلها هذا العيد بتقاليده الراسخة في وجداننا المغربي العميق.
فكم من بيت لا يزال جرح الفقد فيه نديا، ودمع غياب الأب أو الزوج أو الأم أو القريب لم يجف بعد، فيأتي العيد ليجدد الأحزان ويوقظ لوعة الفراق، فيكون غياب الأضحية هذه المرة بمثابة بلسم خفي يخفف من وقع الذكرى الأليمة.
وكم من أسرة يعتصرها الشوق إلى حبيب مهاجر أو قريب غائب أو مسجون أو مرابط على ثغور الوطن، فيمر العيد ثقيلا ببهجته المنقوصة، ولعل هذا التغيير يزيح بعضا من ثقل الانتظار والشعور بالوحشة.
بل إن هذا الهدوء المفترض قد يلف برحمته كل ذي اجتماعي قاس، من مرض أقعد صاحبه عن المشاركة، أو وحدة قاسية تزيدها بهجة الآخرين إيلاما، فيجدون في هدوء هذا العيد متنفسا وفرصة لالتقاط الأنفاس بعيدا عن ضغوط التقليد الاجتماعي.
بنهاية المطاف، دعونا نأمل أن يحمل هذا العيد فرصة لنتجرد من بعض طقوسه المادية المعتادة، لنكشف عن جوهر أعمق ومقاصد أسمى.
إن هذا العيد، الذي قد يبدو للبعض مختلفا أو متغيرا في شكله، قد يكون في حقيقته من أكثر الأعياد فضيلة، يجلب معه دعوة للتأمل وإعادة تقييم ما يهم حقا.
قد نستوعب أخيرا أن الاحتفال الحقيقي يكمن في الضمير لا في المظاهر وحدها، وفي التضامن لا في الإفراط، وفي الحفاظ على النعم لا في استهلاكها دون تبصر. هي فرصة للتأمل في المغزى الحقيقي للعيد.