
في منتصف عام 2022، حين طُلب من ليان يوبو، المسئول التنفيذي في شركة “بي واي دي”، مقارنة الصناعة الصينية بتكنولوجيا “تسلا”، قال إن إيلون ماسك يُعد مثالاً يمكن لجميع شركات السيارات الصينية أن تتعلم منه.
وأضاف في مقابلة مع وسائل الإعلام الرسمية الصينية: “تسلا شركة ناجحة جداً بكل المقاييس، نحن نحترم تسلا ونعجب بها”.
لكن وبعد مرور ثلاث سنوات فقط، بات الفارق التكنولوجي بين “تسلا” وخصومها الصينيين، وعلى رأسهم “بي واي دي”، ضئيلاً للغاية.
فـ”تسلا” تكافح اليوم للحفاظ على صدارتها في أكبر سوق للسيارات في العالم، بينما تتراجع مبيعاتها في العديد من الأسواق الأخرى، وتواجه مشاريعها لتطوير مركبات ذاتية القيادة عراقيل تنظيمية متزايدة.
وقد عاد ماسك من زيارة إلى الصين العام الماضي بتقييم قاتم قدمه إلى إدارته العليا، بعدما تفقد مصانع “بي واي دي” وتكلفتها وتقنياتها.
عن ذلك، قال مسؤول سابق في “تسلا”: “رأى بنفسه ما وصلوا إليه، واعتقد فعلاً أن الصين تتفوق في سباق السيارات الكهربائية”.
ومع تراجع مبيعات “تسلا” نتيجة انخراط ماسك في السياسة الأمريكية وغياب نماذج جديدة من السيارات، تجاوزتها “بي واي دي” لتصبح أكبر مصنع للسيارات الكهربائية في العالم، مسجلةً إيرادات سنوية تفوق 100 مليار دولار لأول مرة في عام 2024.
توجّه القطاع نحو السيارات الذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي أطلق فصلاً جديداً من المنافسة، لم تعد مجرد صراع بين أكبر شركتين في صناعة السيارات الكهربائية، بل تحولت إلى ساحة مركزية للصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
في الغرب، لا تزال “تسلا” تهيمن على السيارات الكهربائية وتتمتع بتفوق واضح فيما يُعرف بـ”السيارات المعتمدة على البرمجيات”، بحسب محلل “باركليز” دان ليفي.
إلا أن المشهد في الصين مختلف تماماً، إذ بات تفوق “تسلا” التقني موضع شك، وربما لم يعد موجوداً أساساً.
حتى وقت قريب، كانت الميزة الرئيسية التي تتمتع بها الشركات الصينية هي تقديم سيارات كهربائية بأسعار أقل بكثير من “تسلا”.
غير أن شركة “بي واي دي” قلبت الموازين في فبراير الماضي عندما كشف مؤسسها، وانج تشوانفو، عن نظام قيادة ذكي متقدم تحت اسم “عين الإله” وهو ما يُعتبر مقدّمة للمركبات ذاتية القيادة بالكامل.
وبعد شهر واحد فقط، أعلن ليان يوبو، الذي يرأس الآن معهد أبحاث هندسة السيارات في “بي واي دي”، عن نظام شحن جديد قادر على إضافة مدى قيادة يصل إلى 470 كيلومتراً خلال خمس دقائق فقط، أي في جزء ضئيل من الزمن الذي تستغرقه سيارات “تسلا” للوصول إلى نفس المستوى من الشحن.
هذه القفزات التقنية السريعة من “بي واي دي” وغيرها دفعت شركات السيارات التقليدية إلى حالة من الذعر، ما دفع العديد منها إلى الدخول في شراكات مع منافسين صينيين لتعلم كيفية بناء سيارات بشكل أسرع وأرخص ومع برمجيات أكثر تطوراً.
ويقول مارك جريفين، أستاذ الابتكار والاستراتيجية في معهد “أي إم دي” في الصين، إن ماسك “غفل عن بعض الأمور” في وقت كان فيه وانج يحرز تقدماً من تكنولوجيا البطاريات نحو تطوير البرمجيات والرقائق الإلكترونية.
ويضيف: “تسلا تأخرت… بينما استخدمت بي واي دي، ذلك الوقت للاستثمار في قدرات طويلة الأمد تجعلها أكثر تنافسية”.
رغم ذلك، لم يتخلَى ماسك عن ساحة المعركة.
ففي مايو الماضي، تنحى عن دوره الاستشاري في الحكومة الأمريكية ليركز على تطوير مجالات النمو الجديدة لـ”تسلا”، بما في ذلك السيارات ذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي وخدمات الروبوتاكسي والروبوت البشري “أوبتيموس”.
ويؤكد أن هذه المنتجات ستحول “تسلا” إلى الشركة الأكثر قيمة في العالم، بمليارات التريليونات من الدولارات.
ويقول مسئول سابق في “تسلا”: “بالنسبة لماسك، السؤال الأهم هو: هل ستبقى شركات السيارات موجودة بعد 10 سنوات إن لم تدخل عالم القيادة الذاتية؟ على الأرجح لا، كما هو حال الهواتف العادية أمام الآيفون”.
ويضيف: “بعدما انتهى سباق تعميم السيارات الكهربائية، لا بد أن تفوز تسلا في مجال الذكاء الاصطناعي والقيادة الذاتية”.
من جانبه، استغل وانج تشوانفو، رئيس “بي واي دي”، هوسه بالبطاريات للولوج إلى قطاع صناعة السيارات مطلع الألفية الجديدة.
وبعدما حصل على استثمار من شركة “بيركشاير هاثاوي” التابعة للملياردير وارن بافيت عام 2008، أشرف على نمو مذهل للمجموعة، التي باعت العام الماضي 4.27 مليون سيارة، أي ما يقارب عشرة أضعاف ما باعته في 2020. من بينها 1.76 مليون سيارة كهربائية بالكامل.
أما “تسلا”، فقد ارتفعت مبيعاتها خلال الفترة نفسها من أقل من نصف مليون إلى 1.79 مليون سيارة، لكن “بي واي دي” تبدو على أعتاب انتزاع الصدارة العالمية للمبيعات السنوية من “تسلا” في عام 2025، مع توسّعها في الأسواق الخارجية.
في السوق الصينية، تحوز “بي واي دي” الآن على حصة سوقية تبلغ 21%، بحسب شركة “أوتوموبيليتي” الاستشارية في شنغهاي، مقارنة بـ8% لـ”تسلا”، التي كانت أول من أدخل السيارات الكهربائية إلى الصين في 2013.
وقد أصبح صعود “بي واي دي” رمزاً لنهضة قطاع السيارات الصيني، الذي كان يعتمد سابقاً على شركات أجنبية مثل “فولكس واجن” و”تويوتا” و”جنرال موتورز” في مجال التصميم والتصنيع.
في حين اضطرت شركات غربية إلى عقد شراكات محلية، غيرت بكين قوانين الاستثمار للسماح لـ”تسلا” بامتلاك وتشغيل فرعها في الصين بالكامل.
واعتبرت الحكومة أن مصانع “تسلا” الضخمة في شنغهاي ستُسهم في نقل المعرفة وتحسين البنية التحتية المحلية.
ووافقت “تسلا” على المخاطر المرتبطة بنقل التكنولوجيا والملكية الفكرية، على أمل الوصول إلى سوق عملاق، بحسب شخص مطلع على المفاوضات.
لكن سرعة التعلم والابتكار لدى الشركات الصينية مكنتها من تخطي منافسين أوروبيين ويابانيين في مرحلة الانتقال إلى السيارات الكهربائية، بحسب ماثيو فاشابارامبيل، الرئيس التنفيذي لشركة “كيرسوفت” المتخصصة في تقنيات تقليل التكلفة.
ويضيف: “بينما الشركات القديمة في أوروبا وأمريكا واليابان تقول إن تكنولوجيا تسلا لا تناسب مركباتها، الصينيون يرون في ماسك القائد… وهم لا يكتفون بتقليد تكنولوجيا تسلا بل يطورونها بسرعة أكبر”.
ومن الأمثلة على ذلك تقنية “الجيجا كاستينج”، وهي طريقة لصب مكونات الهيكل الخارجي للسيارة دفعة واحدة بدلاً من تجميعها، ما يقلل الوزن ويُسرّع الإنتاج ويخفض تكاليف العمالة.
وقد استخدمت “تسلا” هذا النهج لأول مرة في موديلات “واي” المصنّعة في الصين عام 2021.
غير أن تحليل “كيرسوفت” يُظهر أن شركة “إكس بنج” تبنت نسخة محسّنة من التقنية عام 2023 في سيارة “جيه 6” الرياضية، كانت أخف وزناً وأكثر صلابة من تلك التي استخدمتها تسلا.
كما حسّنت شركات صينية أخرى من تصميم كابلات الشحن والمضخات الداخلية.
وخلال معرض شنغهاي في أبريل، عرضت “بي واي دي” سيارة “دينزا زد” الفاخرة بتقنية توجيه إلكترونية متقدمة، كانت “تسلا” قد استخدمتها في سيارة “سايبر تراك”.
كما ابتكرت “بي واي دي” العديد من الأساليب لتقليل تكاليف المكونات، تصل إلى 100 طريقة، يمكن أن توفر لتسلا ما بين 350 و885 دولاراً لكل سيارة إذا اعتمدتها.
في المقابل، يمكن أن توفّر “بي واي دي” لنفسها ما يصل إلى 1,860 دولاراً إذا استخدمت بعض أفكار “تسلا” المتعلقة بأنظمة المكابح ومبادل الحرارة.
وتقول ليزي لي، الباحثة في “مركز تحليل السياسات الصينية” التابع لمعهد آسيا: إن النظام الصناعي في الصين، بما فيه من استثمارات طويلة في البنية التحتية والتجمعات الصناعية والمهارات الهندسية، “خلق بيئة مواتية لنجاح بي واي دي”.
ورغم ذلك، تعتقد “تسلا” أنها لا تزال تملك تفوقاً في مجالات مثل التشغيل الآلي وبنية الذكاء الاصطناعي والوصول إلى شرائح “إنفيديا”، وكم هائل من بيانات القيادة يستخدم في تدريب شبكاتها العصبية.
ويقول شخص مقرب من “تسلا”: “من السهل سرقة أو تقليد مكوّنات الأجهزة، لكن من شبه المستحيل إعادة هندسة برمجياتنا”.
هدف ماسك القريب هو إطلاق روبوتاكسي ذاتي القيادة على نطاق واسع بعد اختباره في مدينة أوستن.
ورغم تحذيرات المحللين من صعوبة اللحاق بـ”وايمو” التابعة لـ”جوجل”، يؤمن ماسك بأن هذا التوجه قد يرفع قيمة “تسلا” إلى 5 تريليونات دولار.
وقد قال للمستثمرين في أبريل: “لا أرى أحداً يستطيع منافسة تسلا حالياً. أعتقد أن حصتنا قد تبلغ 99% أو شيئاً من هذا القبيل”.
ويبدو أن المستثمرين يصدّقونه، إذ تبلغ القيمة السوقية لـ”تسلا” نحو تريليون دولار، بينما تقف “بي واي دي” عند حوالي 140 مليار دولار، وتُعتبر مجموعة تركّز على البطاريات أكثر من البرمجيات.
لكن إعلان عن نظام “عين الإله” غير هذا المفهوم، إذ كانت “بي واي دي” سابقاً متحفظة في تبني تقنيات القيادة الذاتية مقارنة بـ”إكس بنغ” و”نيو”. الآن، دخلت اللعبة.
رغم أن النسخ الأولى لا ترقى إلى مستوى “إف إس دي” من “تسلا”، إلا أن “بي واي دي” تعتزم إدراج النظام في أغلب طرازاتها دون رسوم إضافية، ما قد يُهدد نموذج تسعير “تسلا” المعتمد على بيع خاصية القيادة الذاتية بسعر مرتفع.
ويرى تو لي، مؤسس شركة “سينو أوتو إنسايتس”، أن مفتاح النجاح ليس ما تطرحه “بي واي دي” الآن، بل كم البيانات التي تجمعها، ما يمنحها فرصة للفوز في سباق السيارات بدون سائق.
فكل سيارة من أصل 4.3 مليون تبيعها الشركة سنوياً ستصبح أداة لتغذية الخوارزميات بالبيانات.
ويسمح حجمها أيضاً بشراء شرائح “إنفيديا” بأسعار تنافسية، وإدراج ميزات شبه ذاتية حتى في سيارات اقتصادية لا تتعدى 9600 دولار.
لكن أبرز التحديات أمام “تسلا” في الصين هو حظر نقل البيانات إلى الخارج، إذ تعتمد أنظمة “إف إس دي” على مليارات الساعات من الفيديو لتدريب خوارزميات القيادة، وهو أمر ممنوع حالياً.
والنتيجة هي نسخة صينية من “إف إس دي” بأداء أضعف، نتيجة قلة البيانات.
وتقول شركة “ريستاد إنرجي” إن “تسلا” تعتمد في الصين على المحاكاة أكثر من التجارب الواقعية.
ورغم شراكتها مع “بايدو”، فإن الأخيرة لا تشارك جميع البيانات معها.
ويضيف ديو فو من الشركة: “البيانات الحقيقية تبقى الأهم”.
تأخر “بي واي دي” في القيادة الذاتية يعرضها لمخاطر مالية وسط حرب أسعار شرسة
ومع أن “بي واي دي” تمتلك أفضلية على أرضها من ناحية جمع البيانات، فإن انتقالها المتأخر إلى تقنيات القيادة الذاتية ينطوي على مخاطر مالية، خاصة في ظل حرب الأسعار بين المصنعين الصينيين، وما يفرضه ذلك من ضغط على الأرباح.
ويُظهر تحليل “إيفركور” أن نظام “عين الإله” يستخدم شركاء خارجيين في البرمجيات مثل “مومنتا”، ومكونات من “إنفيديا”.
لكن المحللين يعتقدون أن “بي واي دي” ستقوم بتطوير أغلب الأنظمة ذاتياً مستقبلاً، مع استبدال شرائح “إنفيديا” بتلك المصنوعة من “هورايزون روبوتيكس” في بكين.
ويقول المحلل يوقيان دينج من بنك “إتش إس بي سي”: “رغم أن بي واي دي لم تعلن عن خدمة روبوتاكسي، فإن مسؤوليها أوضحوا أنهم يخططون لتطوير كل البرمجيات والمكونات داخلياً… ومع مبيعات تتجاوز 5 ملايين سنوياً، يمكنهم تحقيق ذلك”.
واختتمت ستيلا لي، نائبة الرئيس التنفيذي لـ”بي واي دي”، في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز”، بأن التنافس مع “تسلا” سيُسرع الابتكار، ويجعل “بي واي دي” شركة أفضل.
وأضافت: “في المستقبل، إذا لم تكن تصنع سيارة كهربائية، أو لم تدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي والقيادة الذاتية، فستكون خارج السباق”.