
(من غاب عن الدنيا ولم يغب عن الذاكرة)
لأن هذه الدنيا ليست لنا…
لأننا مارّون…
لأننا جميعاً عابرون…
لأنها دار معبر لا مستقر…
في فجر الثامن عشر من يونيو، كان هذا اليوم أعظم هزائمي وأفدح خساراتي.
فقدت والدي، وسيدي، وملاذي، في لحظة صمت وفزعٍ حاصرها الخوف، والإنكار، والتشبث بأمل لا وجود له، ونحن نردد بيأسٍ:
«حاولوا، يمكن يردّ النبض…».
وما كان ختامها إلا ما كتبه الله:
«إنا لله وإنا إليه راجعون»
والحمد لله على كل حال.
هذا الرجل، لم يكن مجرد أب، بل كان أبي وصديقي وحبيبي، وطوق نجاتي في هذه الحياة.
كان وجوده يُشعرنا بالأمان، حتى وإن لم يغادر المنزل في السنوات الأخيرة، وكان يردد:
«يبا، أنا لفيت العالم وشبعت… الحين دوركم».
لم يتذمّر يوماً من المرض، وكان يُخفي آلامه عنا، كي لا نُرهَق بالقلق ولا نخاف.
كان منبعاً للطاقة الإيجابية، لا يُذكر اسمه إلا ويُذكر الخير معه.
كان بيته مفتوحاً للجميع، وتربيته لنا قائمة على العدل والمساواة، ويردد: «كلنا سواسية» ربانا على الاحترام والتقدير.
كان يحب السياسة الخارجية، يتابع أخبار الدول ويحلل المواقف بحكمة، ومن يجلس معه عشر دقائق يعرف ماضي دولة وحاضرها ومستقبلها.
كان قانونياً، علمنا أن نلتزم بالقانون ويردد:
«خلك قانوني، ومحد يقدر يضرك». تربينا على العطاء وأن نحب لغيرنا ما نحبه لأنفسنا.
كان وطنياً صادقاً، أحبّ الكويت وفي الغزو ونحن أطفال أتذكر عندما قال:
«أموت في بيتي بهالديرة… وما أطلع».
ومن يومها، غرس معنى حب الوطن فينا.
أدرك تماماً أنني فقدت الصديق والحبيب، الشخص الذي كنت ألجأ إليه في كل موقف، وكل رأي، وكل أزمة. حتى إنني، وإن خالفته الرأي أحياناً، كنت أعود إليه لأنه يقول لي دائماً:
«بنت أبوها مالج إلاّ اللّي براسج، سوي اللي تشوفينه».
رحل صديقي، وكاتم أسراري، من كان يفهم حزني أو غضبي دون كلام، ويبدأ حواره معي بـ: «وسّعي الصدر يبا…».
ويختمه بحلول تُشعرني بالقوة:
«سوي اللي تبين، واللي يكلمج قولي له عندك أبوي».
ربانا على صون الود وحفظ العشرة.
رحل صديق العلم والتعليم، من شجعني ودعمني في كل مراحل حياتي.
رحل، الطيب من لم يؤذِ أحداً…
رحل، من كان دائم العذر للناس…
رحل، وهو يعلم كم سأفقد بفقده…
رحل وهو يعلم كم سأصمت لأنني لن أتحدث معه…
رحل، وتركني في صدمة ما زلت أعيشها…
أتخيل صوته، أسمع صوت التلفاز يتنقّل بين المحطات الإخبارية وإذاعة القرآن الكريم، أنسى أحياناً، فأذهب لرؤيته فأصطدم بالواقع.
أعيش الآن مع ساعة يده، ونظارته، ودفتر بخط يده، وكوبه المعتاد، أتمسّك بها لأواسي قلبي بصمت.
لأن الأوقات السعيدة تمضي…
لكن الذكريات تبقى…
أُبشّرك يا يبا، عيالك وأحفادك يذكرونك بالدعاء في كل لحظة، كأنك لم تغب عنهم أبداً،
فاجعة فقدك والدي أرتنا مدى تكاتفنا وصلابتنا اللي ربيتنا عليها سنين في هذه العائلة.
رحمك الله سيدي أيها الطيب…
إبراهيم عبدالمحسن العواد
طيب الله ثراك، وأسكنك فسيح جناته، وجمعنا بك في جنات النعيم عاجلاً.