نور ملحم: سورية: زواج تحت التعذيب واستغلال رقمي… كيف تواطأنا مع الجريمة؟

نور ملحم: سورية: زواج تحت التعذيب واستغلال رقمي… كيف تواطأنا مع الجريمة؟

نور ملحم: سورية: زواج تحت التعذيب واستغلال رقمي… كيف تواطأنا مع الجريمة؟

 
 
نور ملحم
في زمنٍ أصبحت فيه القضايا الإنسانية تتقافز على شاشات العالم، ويُقاس فيه الألم بعدد المشاركات والتفاعلات، تبرز جرائم خطف الفتيات في سوريا واستغلال الأطفال في باكستان كمثالين فاضحين على انهيار منظومة الأخلاق العالمية، لا لأنها تحدث فحسب، بل لأنها تحدث في العلن، ويصمت عليها القريب والبعيد.
في سوريا، الفتيات يُختطفن من الشوارع والساحات، وتُستخدم الروايات الرسمية لتبرير الغياب على أنه “هروب طوعي” أو “مشكلة عائلية”. بين طرطوس واللاذقية وحمص ودمشق، توثق منظمات حقوقية  حالات اختفاء وتعذيب وابتزاز، تُواجه عادة بإنكار أو تبرير رسمي، دون تحقيقات جدية أو مساءلة واضحة.
وقد تم توثيق العديد من  حالات تزويج قسري لفتيات من الأقليات  بعد اختطافهن، حيث أُجبرت بعضهن على توقيع عقود زواج تحت التهديد، بينما تلقت عائلاتهن صورًا توثق آثار التعذيب على أجسادهن. هذه الممارسات، التي تُنفذ أحيانًا تحت غطاء قانوني مزيف،  حيث يوجد شبكات منظمة تتعامل مع الفتيات كسلعة تُباع وتُشرعن، في ظل صمت رسمي وتواطؤ مجتمعي. ومع غياب أي إطار قانوني حازم يمنع هذه الانتهاكات، تتحول الفتاة من ضحية اختطاف إلى زوجة بالإكراه، يتم طمس قضيتها والتستر عليها بغطاء اجتماعي أو ديني، يُشرعن الجريمة بدلًا من ردعها.
وبينما تغرق سوريا في هذه المأساة، تكشف باكستان عن وجهٍ مختلف لنفس الجرح: شبكات دولية من الاستغلال الجنسي للأطفال، تعمل من داخل مناطق مهمّشة مثل مظفر جاره وكوت أدو، مستخدمةً أحدث أدوات التكنولوجيا لتوزيع صور ومقاطع استغلالية عبر الويب المظلم. وكما في سوريا، تلتزم السلطات بالصمت، أو تقدم ردود فعل موسمية لا تتجاوز حدود المداهمات المحدودة.
وفقًا لمنظمة Sahil الباكستانية، تم تسجيل أكثر من 2900 حالة اعتداء جنسي على أطفال في عام واحد، بمعدل يومي يقارب ثماني حالات. لكن رغم هذه الأرقام، فإن الحكومة الباكستانية لم تُجرِ أي مسح شامل لعمالة أو استغلال الأطفال منذ ما يزيد عن عقدين، ما يجعل التصدي لهذه الشبكات أكثر تعقيدًا.
الرأي العام في كلا البلدين يعيش حالة من الإنكار والتردد. في سوريا، يُلقي المجتمع باللوم على الضحية، أو يرفض تصديق الرواية، بينما تخشى العائلات الحديث خشية الوصمة أو الانتقام. أما في باكستان، فالثقافة السائدة تمارس قمعًا مزدوجًا على الضحايا، فلا أحد يتحدث عن عنفٍ جنسي في العلن، خاصة حين يكون الضحية طفلًا، والمجرم صاحب نفوذ.
لكن المأساة لا تقف عند حدود الجغرافيا. إذ يُفترض بالمجتمع الدولي، الذي يتشدّق بحقوق الإنسان ويعقد المؤتمرات حول حماية الطفولة، أن يتحرك. إلا أن الواقع يُظهر تقاعسًا واضحًا في التعاطي مع هذه القضايا. ففي سوريا، لم يصدر أي موقف دولي حازم ضد خطف الفتيات، رغم وضوح الجرائم وتوثيقها. معظم المواقف تُدرج ضمن تقارير عامة لا يتبعها إجراء فعلي، وكأن اختفاء فتاة ليست قضية تستحق الوقوف عندها.
وفي باكستان، ورغم تدخلات أمنية محدودة من وكالات مثل الإنتربول واليوروبول، فإن الاستجابة الدولية ظلت تقنية بحتة، تركز على تعطيل الأدوات الرقمية، دون الضغط السياسي أو الأخلاقي الضروري لمعالجة الجذر الحقيقي للمشكلة. هذا الغياب يُعيد إنتاج الأزمة، ويحول ضحايا الاستغلال من مجرد أرقام إلى “أضرار جانبية” لا يهتم بها أحد.
وما يزيد من فداحة المشهد أن هذه الجرائم لا تقتصر على سوريا أو باكستان. ففي أوروبا، أعلنت وكالة يوروبول عن تفكيك شبكة ضخمة تضم نحو مليوني مستخدم في أكثر من ثلاثين دولة، كانت تُنتج وتوزّع مواد استغلال جنسي للأطفال، بعضها تم بثه مباشرة عبر الإنترنت. وفي دول عربية مثل السعودية والإمارات، كشفت تحقيقات دولية عن تورط أفراد في شبكة عالمية تُدار من كوريا الجنوبية، كانت تبيع مقاطع فيديو استغلالية باستخدام العملات الرقمية. أما في دول جنوب شرق آسيا مثل تايلاند والفلبين، فتُعد السياحة الجنسية واستغلال الأطفال من القضايا المزمنة، حيث تُستخدم غرف دردشة وتطبيقات ألعاب لاستدراج الأطفال وتصويرهم وبيع المحتوى عالميًا2.
هذه الأمثلة تُظهر أن الجريمة لم تعد محلية، بل أصبحت عابرة للحدود، مدعومة بالبنية الرقمية، وضعف الرقابة، وتواطؤ بعض المجتمعات بالصمت أو التبرير. وبين تبرير داخلي وغياب خارجي، تستمر الجرائم وكأنها أمر واقع لا يستحق النقاش. الفتيات يُختطفن ويُجبرن على الإنكار، والأطفال يُسلّعون في صور ومقاطع تُباع عالميًا، والمجتمعات تُبرر، والسلطات تُنكر، والعالم يُصغي فقط عندما يُجبر على ذلك.
في نهاية المطاف، فإن اختفاء فتاة في الساحل السوري، أو بيع صورة طفل باكستاني على منصة مظلمة، لا يخصان تلك الدول فحسب. إنهما جرحان مفتوحان في وجدان البشرية جمعاء، واختبار حقيقي لقدرة العالم على مواجهة القبح لا تجاهله. فهل نملك الشجاعة للاعتراف، لا فقط بالجريمة، بل بتواطؤنا الجماعي في استمرارها؟
كاتبة سورية

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: