
I stand with Francesca Albanese
د. لينا الطبال
هكذا، نعم، اخترت عنوان هذا المقال بالإنجليزية. لا لأنني أهوى الاستعراض، ولا لأنني أؤمن بعولمة اللغة أكثر من عدالتها. لكن لأن الجملة نفسها أصبحت، دون إذن من أحد، بيان تضامن عالمي.
I stand with Francesca Albanese
جملة قصيرة، متعبة…خمس كلمات فقط. تُلفظ بهدوء، لكنها تُصنف خطر على الأمن القومي … كيف؟؟
تابع هذه القصة…
هناك امرأة إيطالية تُلاحق اليوم بسبب غزة. لا تحمل جينات المقاومة، ولا تربطها بغزة قرابة دم، ولا تاريخ نكبة، ولا حتى صورة. ليست عربية، لم تولد في مخيم، ولم تنشأ على خطاب التحرير. ليست يسارية حالمة، وربما لم تقرأ ماركس في المقاهي. لم تُلقِ حجرا واحدا على جندي إسرائيلي… كل ما فعلته أنها أدت واجبها المهني.
“مجنونة”، قالها ترامب. هو الذي يحتكر هذا اللقب ويُوزعه كما يفعل النرجسيون حين ينهارون أمام امرأة لم تصمت على الأذى.
إسمها فرانشيسكا ألبانيزي. محامية وأكاديمية إيطالية، وتشغل منصب المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. موظفة أممية، تجلس خلف مكتب أبيض، تكتب تقارير بلغة دقيقة وبصياغة قانونية غير منحازة. لا تجيد الخطابة، لكنها قالتها بوضوح لا لبس فيه: ما يجري في غزة هو إبادة جماعية.
كتبتها كما هي في تقرير رسمي صادر عن منصبها، وباللغة التي يفهمها القانون الدولي: ما تفعله إسرائيل في غزة هو إبادة.
فجأة، صار اسمها خطر وجب تفخيخه، تماما كما يفخخ الجيش الإسرائيلي البيوت في رفح. نُسف اسمها بصاروخ سياسي واحد، وتم ادراجه في لائحة العقوبات، جنبا إلى جنب مع المهربين وممولي الإرهاب.
ها قد عرفت الآن: في هذا العالم، يكفي ألا تكذب حتى تُمنَع من السفر، وتُجمد حساباتك، وتُركل خارج النظام الدولي.
فرانشيسكا لم تخرق القانون، هي قامت بتطبيقه. وهذه هي جريمتها الحقيقية.
هي لم تُخطئ في التعريف، لم تُبالغ في اللغة، لم تخرج عن وظيفتها. كل ما فعلته أنها سمّت الجريمة بإسمها.
لا، هذا ليس مقالا عن إبادة الهنود الحمر. ولا عن فيتنام ولا عن الفسفور الأبيض ولا عن بغداد أو عن طرابلس… هذا ليس مقالا ينبش الماضي الاميركي، هذا المقال هو عن الحاضر الذي لا يخجل. وعن الحق الذي يضيع حين نطالب به… هذا المقال هو عن العدالة الدولية التي يجري خنقها امام اعيننا وعن شرعة حقوق الانسان التي تتبخر أيضا امام اعيننا. في حين يجلس الجاني في مقعده في مجلس الأمن.
هذا مقال عن عالم لا يعاقب الكاذب. عالم يقتلك حين تُحب بصدق، حين تُعطي دون حساب، حين تتكلم بشجاعة، حين تحاول أن تصلح الخراب.
هذا، ببساطة، مقال عن العالم الأسود.
ذلك العالم الذي يُضيّق الخناق على كل من لا يريد أن يشبهه.
فرانشيسكا لم تكن الأولى.
حين وُلد ميثاق روما، تعاملت الولايات المتحدة مع المحكمة الجنائية الدولية كأنها “فيروس قانوني”، لأنها لم تتمكن من السيطرة عليها… بيل كلينتون وقع عليه (ولم يصادق). ثم جاء جورج بوش الابن، فسحب التوقيع، وشرّع ما عُرف بـ”قانون غزو لاهاي”، الذي يتيح اجتياح هولندا عسكريا إذا تجرأت الجنائية على محاكمة جندي أميركي واحد فقط… باراك أوباما، العاقل، لم يُلغِ القانون… اتى ترامب، الكاو بوي الأشقر، بمسدسين على خصره، وأطلق على العدالة الطلقة القاضية… عاقب فاتو بنسودا، المدعية العامة السابقة للمحكمة، لأنها فتحت ملفات أفغانستان وفلسطين. نزع تأشيرتها، جمّد أصولها، وعلق رقبتها على حبل تغريداته الساخرة.
ثم أتى كريم خان، المدعي العام الحالي، وحمل ملف غزة الثقيل، وقائمة أسماء ثقيلة ايضا: نتنياهو وغالانت… ومرة أخرى، عاد سيف الانتقام السياسي وتَوَعَدَ سيف العدالة.
انهالت على كريم خان التهديدات من الكونغرس، من البيت الأبيض، من تل أبيب.
في أول يوم لوصوله إلى البيت الأبيض، وقع دونالد ترامب قانون العقوبات ضد المحكمة الجنائية الدولية. رجل من أصل باكستاني، يجرؤ على الاقتراب من أسماء لا تُمس؟ هنا تنتهي اللعبة…
وهكذا تم ادراج مؤسسة دولية بكامل طاقمها وتجهيزاتها تحت بند العقوبات الأميركية، كما لو كانت ميليشيا مسلحة… وصدر بحق موظفيها حظر على السفر، وعلى العمل، بل وعلى التنفس بحرية…. من قال إن أميركا تمنع العدالة؟ طالما أنها لا تقترب من تل أبيب أو من البنتاغون.
وفي لحظة صدق قالها جو بايدن بصيغته الملتوية: هذه القوانين لم يتم صياغتها لتطبق على “الرجل الأبيض”، انما على الأفارقة… وعلى بوتين، حين تقتضي الحاجة.
وها هي المفارقة تكتمل: 85٪ من الدعاوى والملاحقات أمام المحكمة الجنائية الدولية، تستهدف أفارقة.
وعندما تفتح الملفات باتجاه الغرب، تتحول العدالة إلى تهديد… والمحكمة إلى هدف.
وها أنت تعرف الآن أيضا: إذا تجاوزت الخط الأحمر،
تُحاكَم المحكمة.
ويُحاكَم القاضي.
ويُحاكَم الشاهد.
ولا يبقى إلا القاتل… يجلس في الصف الأول، يبتسم للكاميرات، ويتلقى دعوات لحضور مؤتمر عن حقوق الإنسان. لما لا؟
ترامب وجّه صفعة مميتة للقانون الدولي، وطعنة في قلب المحكمة الجنائية، ثم دفن ما تبقى من منظومة حقوق الإنسان، ورمى لنا بالجثة: “تلك هي، ادفنوها”، قالها بنفس النبرة التي تُقال بها الأوامر في مجازر الساحل السوري حين يتم دفن العلويون تحت الركام، بلا شهود، بلا تحقيق، وأحيانا بلا اسم، برقم فقط… حفرة وينتهي كل شيء.
ترامب فعل ما يفعله الكاوبوي، أطلق النار ثم قال إن الهدف كان يهدد الأمن. وكل ذلك أمام أعين الأمم. وأعيننا أيضا… أمام أوروبا بالتحديد.
اوروبا التي كتبت هذه القوانين من رماد حروبها، من عقدها النفسية التي لم تُحل أبدا، من خوفها من نفسها.
واليوم هي تشاهد، صامتة… بكل عقدها النفسية أوروبا تصمت اليوم. تدفن وليدها القانوني بدم بارد، كما تدفن أمهات غزة أبناءهن…
بدمعة واحدة، لأن الوقت لا يسمح بالبكاء الطويل.
هل عرفت الآن؟ كل قوانين حقوق الإنسان، من ميثاق روما إلى الشرعة الدولية، تصلح للجلسات الأكاديمية، وللدورات التدريبية التي تنتهي بتوزيع الشهادات والتقاط الصور بعد تخريج الخبراء السعداء.
وان كل شيء يُحسم في واشنطن.
هكذا تُدار العدالة الدولية في عصر الهيمنة: قائمة عقوبات… وسجادة حمراء تُفرش امام الجلاد.
هل تابعت القصة جيدا…
امرأة إيطالية على لائحة الإرهاب السياسي الأميركي. .. اسمها فرانشيسكا ألبانيزي. ليست من غزة ولم تخرج من حرب، ولم تولد تحت حصار. لا تخفي سلاح او قنبلة في حقيبتها، ولا تنتمي إلى تنظيم سري… جاءت من عالم القانون، من مؤسسات الأمم المتحدة، من بيروقراطية حيادية… كل ما فعلته أنها كتبت تقرير رسمي عما جرى في غزة…
كتبت ما شاهدته: دم، ركام، جريمة مكتملة الأركان… كتبت ان ما حدث هناك لم يكن حملة أمنية، ولا دفاع عن النفس، ما حدث في غزة هو إبادة جماعية… أدت وظيفتها بلغة التقارير، دون شعار، دون هتاف، ودون ان تضع حتى نصف بطيخة حمراء على الهامش… فرانشيسكا ألبانيزي اربكت النظام العالمي لأنها لم تكذب…
لم تكسر عرف دبلوماسي… فقط هي طبقت القانون…
باحثة واكاديمية – باريس
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: