سورية: التطبيع أولًا… والفاتورة إيرانية المصدر

سورية: التطبيع أولًا… والفاتورة إيرانية المصدر

سورية: التطبيع أولًا… والفاتورة إيرانية المصدر

 
د. ميساء المصري
في الشرق الأوسط، حيث ما يُقال هو قناع، وما يُخفى هو وجه الحقيقة، تُنسج اليوم خيوط مشروع إقليمي جديد. لا يكتفي بإعادة ترتيب الأدوار، بل يسعى لإعادة تعريف المفاهيم، من السلام إلى الهيمنة، من الشراكة إلى الخضوع، ومن التطبيع إلى الإصطفاف القسري. وبين السطور تبرز عبارة موجعة “التطبيع أولًا… والفاتورة تُدفع من إيران”.
لكن، هل الفاتورة إيرانية فقط؟ في الحقيقة، هي فاتورة جماعية، تسددها فلسطين، والأردن، ولبنان، وسوريا، والعراق، ومصر، وكل من تجرأ على قول “لا” في زمن الإجماع المعلّب. لم يعد التطبيع خيارًا سياديًا، بل صار بوابة إجبارية لدخول “النظام الإقليمي الجديد”، نظام يُبنى على منطق المنتصر لا على ميزان العدالة. سلام بلا كرامة، وشراكة بلا تكافؤ، وتفاهمات تُكتب خارج إرادة الشعوب.
الخريطة الإقليمية لم تعد ساحة قتال كلاسيكية، بل تحولت إلى حلبة سطوة يتصدرها “مهندس الهيكل الثالث”  إسرائيل الفاعل الوحيد الذي لا تهدد حركته أي خطوط حمراء. في المقابل، يُعاد تقديم “القيصر السوري” — وأظنكم تدركون دلالة هذا اللقب — لا كخصم في ساحة الصراع، بل كمقاتل متقاعد، يمكن تكييفه وتدويره، لا بوصفه قائد مواجهة، بل كحارسٍ لممرّ إقليمي هادئ.
 ان إعادة تأهيل دمشق اليوم لا تأتي استنادًا إلى ثقلها الجيوسياسي، بل بوصفها معبرًا يمكن تطويعه ضمن معادلة جديدة تُدار من تل أبيب وواشنطن. المهمة ليست إقصاء “القيصر”، بل تحييده وضبطه، بحيث يصبح عنصر توازن مؤقت يخدم بناء السلام الهش، دون أن يشكل تهديدًا حقيقيًا لمهندس الهيكل.
في هذا السياق، يُستخدم قانون قيصر،الذي رُبط بشكل خفي بتخفيف العقوبات مقابل خطوات تطبيع وهدنة إقليمية، كأداة ضغط ناعمة، تُمارس على الدول التي ما تزال تحتفظ بمسافة رمزية عن المحور الإسرائيلي.
في غزة، المشهد أكثر قسوة.هدنة أو صفعة صمت مقنّع تُلبّس عباءة “الاعتبارات الإنسانية”، لكنها في الواقع مناورة لتجميد الجبهة الجنوبية، وإعادة ترتيب الأولويات. فالحرب على غزة، رغم ضراوتها، لم تكن إلا فاصلًا تمهيديًا في المسرح الكبير. الهدف الحقيقي لا يكمن تحت أنفاق غزة، بل خلف الجبال الإيرانية. وكل وقف لإطلاق النار اليوم ليس بدافع الرحمة، بل لتوفير الجهد للحرب الأكبر.
حيث لا يمكن لتل أبيب أن تخوض معركتين في آن، ولا لواشنطن أن تتحمل تكاليف مزدوجة في عام انتخابي ضاغط. لذلك، فكل مسار تفاوضي الآن هو مناورة للتفكيك ، وتصفية الحساب لاحقًا مع طهران، تحت عنوان “حماية الاستقرار الإقليمي”.
وفي دراسة خبيثة نشرتها صحيفة هآرتس الإستخبارتية بعنوان: “بعد الحرب مع إيران… إسرائيل تخطط لشرق أوسط جديد”، أعدّتها السفيرة الإسرائيلية السابقة في القاهرة أميرة أورون والباحث أوفير وينتر، لتكشف ملامح ما هو قادم. ليست ورقة تحليل، بل أشبه بخارطة طريق لمشروع هيمنة إسرائيلي صريح.
وتشير الدراسة إلى أن إسرائيل تنظر إلى الأردن ومصر كـ”عناصر تكميلية” في هندسة الإقليم. أما المخاوف الأردنية والمصرية من هذا المشروع، فهي ليست أوهامًا، بل تعكس وعيًا عميقًا بتأريخ طويل من الإحتلال والاختراق والتطويع.
فإسرائيل، بحسب الورقة، لا تسعى إلى شرق أوسط مستقل، بل إلى شرق خاضع؛ لا يرفض بل يُطبّع، لا يشارك بل يصمت. غير أن هذا المسعى، وإن بدا هادئًا، يشعل نيرانًا قد يصعب إخمادها.ورغم الضغوط السياسية والاقتصادية المتصاعدة التي تُمارس على القرارين الأردني والمصري، يبقى صوت الشارعين في عمّان والقاهرة حاضرًا بقوة، كأحد أبرز الأصوات الرافضة للتطبيع، والمُصِرّة على حماية القضية الفلسطينية، ولو من خلف الخطوط.
لكن دمشق، في هذه المعادلة، لا تعود كعاصمة مقاومة، بل كدولة “قابلة للتكيّف”، تُعاد صياغتها لتتلاءم مع ميزان القوى الذي ترسمه إسرائيل، لا مع تطلعات الشعب السوري.فكل حديث عن “العودة إلى الحضن العربي” يخفي بين سطوره مشروعًا دقيقًا للهندسة السياسية، يتقاطع مع “خطة السلام الجديدة” التي تُصاغ في تل أبيب، بأحبار النفوذ الأميركي، وبرعاية “التطبيع الزاحف” القادم من الخليج.
“الفاتورة الإيرانية”  قد تكون العنوان، لكنها ليست كامل الحساب. ما يُراد من هذا المشروع هو تطبيع العقول قبل تطبيع الخرائط. تحويل الشعوب إلى جمهور صامت، والمقاومة إلى ذكرى، والكرامة إلى رفاهية زائدة.
السلام الحقيقي لا يُبنى على الخضوع، بل على العدالة. ولا يُصنع في غرف مغلقة، بل يُنتزع من ساحات الكرامة. وإذا كان الشرق الأوسط الجديد سيُصاغ بيد “مهندس الهيكل الثالث”، فعلى شعوب المنطقة أن تقرر إن كانت ستسير في الموكب… أم تُفجّر الأسئلة في وجه التأريخ.
كاتبة مختصة في الشؤون الإستراتيجية/ الاردن

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: