خديعة الإزدهار الإستقرار الاستعمار الاستقلال

خديعة الإزدهار الإستقرار الاستعمار الاستقلال

خديعة الإزدهار الإستقرار الاستعمار الاستقلال

 
علي الزعتري
مع طويلِ زمنٍ من التاريخِ العربي يمكنك أن تضع الاستعمار قبل الازدهار أو قبل الاستقرار أو تُساوي بين الاستقلال و الاستعمار، فكلمةَ الاستعمار تُعَبِّرُ في الحقيقة و عملياً عن القيمة المضافةِ السلبية للاستقلال وأختيه المفترضتين، الاستقرار والازدهار، ولا نحتاجَ كثيراً من التفسير لهذه الفرضية فإن فَهْمَ العربي أينما كان يكفي لماذا وصلنا لهذا الحال.  لا أعني أنني ضد الاستقلال عن الاستعمار أو أنني أرفض الاستقرار و الازدهار لكني أشعرُ أن الاستعمار لا يزال يقود هذه الثلاثية النبيلة ببلادنا المستقلة فيدخل في ثناياها يوقف السيادة و ينتهكها و يعاقب ويكافئ بالدمار أو بالاستقرار والازدهار المشروطين كيفما يريد.
أَأُجازفُ إن قلتُ أنَّ استعمارنا لم يبدأ مع الحملات الصليبية، و أنه بدأَ منذ دخول العصر الأموي تاريخنا الإسلامي العربي عندما كَرَّس عِلْمَ توريثَ الحكم و تضييع المُساءلة، بغضِّ النظر عن الوَرَعِ والكفاءة المطلوبتين في الخليفةِ، واللتين تم تجاهلهما أحياناً كثيرةً لإرضاء الانتساب العشائري. كان الأموي هو العصر المتسم بإكثار البذخِ ومحبةِ الإنفاق في العطايا والمخصصات و التنعم و المرح والعمارة الجميلة، كما طبعاً في الغزوات والفتوحات التي جلبت ثروةً هائلةً للخلافة. هذه قِيَمٌ جعلت من المواطنين، خاصةً من العشيرة و البطانة حول الخليفة، أتباعاً يستلذون بعطاءِ الدولةِ القوية سواء حَكَمَهُمْ فاضلٌ أم فاسدٌ طالما أنهم مستفيدون حتى أنهم حين واجه الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عائلته وعشيره و حجب عنهم ما قال لهم أنه ليس لهم بل لبيت المال سَمَمُّوه!  و استمرَّ الاستمراءَ ذاته للملذات مع توسيع الدولة و تكثير الموارد و نقل الثروات للخليفة في العصور العباسية حتى صارت الدولة أكبرَ و أعقدَ من أن تُحكَمَ من مركزٍ بعيدٍ في بغداد و تخبطت في سلاسل من الدسيسةِ و التنافس الدموي أحياناً كثيرةً بين الأخوة العباسيين. علاجاً لهذا أتت الخلافة أولاً بالمسلمين الفرس ثم الأتراك لِيُعِينوا الخليفة (وأَصِفَهُ بالمُستَضْعَفَ) على من حوله من بني جلدته فصارَ  أغلبية الخلفاء يحكم بالإسم على الختم دون سلطة بينما الحاكم الفعلي هو العسكري المسلم غير العربي، فانتهى الأمر بالخليفةِ مُستَعْمَراً منهم وإن كانوا من ذات المِلَّةِ فهم حملوا كل صفات المُستَعمِر، و انتهى الأمرُ بالخلافةِ مفتتةً بالتدريج لصالح القادة والولاة الخارجين عن الطوع ثم انتهت الدولة العباسية بالغزو المغولي.
استمر الاستعمار  يتناوب علينا بأشكاله تحت مسميات إسلامية و صليبية، قديمة و حديثة، حتى بدايات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. كانت سِمةَ الحاكمين من كل ركنٍ أتوا منه السطوة و الشهوة للثراء و الظلم. كان الأثر الاستعماري السلبي علينا يطغى على أي إيجابٍ تحمله معاني كلمة الاستقلال المنشود.  نعم هو جاء بمقومات الحياة العصرية وكان ذلك لتسهيل حياة المستعمرين وتعظيم الفائدة من امتصاص الموارد و كان يخترع كل وسيلةٍ لزيادة استفادته من الاستثمار في الاستعمار ليس لصالح البلاد بل لصالح عواصمه. و في بداية الاستعمار الحديث استفادت فئاتٌ قليلةٌ من العرب من المدنية التي أتى بها الاستعمار قبل الاستقلال لكن غالبية العرب استمروا مُستَعبدين و قانعين أن يكونوا هوامش غير نافعةٍ في كتاب الاستعمار و صفحات الطبقة العربية المستفيدة منه.  ثم كانت مسيرة الطبيعة البشرية فالشعوب التي فتحت المدنيةُ عيونها و تلقى شبابها العلم و ذاقت مرارة الظلم باتت تريد زوال ظواهر الاستعمار والتمتع بمظاهره المدنية من دونه وهو يريد البقاء باحتلالٍ أو شراكةٍ خاصةً مع معرفته بما تمتاز به بلادنا فكان سايكس پيكو لتقسيم الشرق و التَدَرُّجَ لمنح الاستقلال ببلداننا التي شهد بعضها قبل زوال جيوش الاستعمار منها كالجزائر واليمن وليبيا وفلسطين (التي سلمها للصهيونية) وسوريا والسودان والعراق وتونس صوراً قاسيةً من الجهاد ضد الاستعمار وصوراً من بطشهِ لا تنساها. و حتى بعد حصول البلدان العربية على الاستقلال، بعد أن أدرك المستعمر مُضطراً بسبب تغير الزمان و ثوران الشعوب أن عليه أن يخرج من بلادنا فهو في الحقيقة استولى على الاستقلال  أو تَقَمَّصَهُ بوسائل متعددة.
فهل زال الاستعمار بعد الاستقلال؟ و هل أتى الاستقلال بالازدهار والاستقرار؟ كل المؤشرات التي ابتكرتها العقول لا تضع العرب كلهم اليوم بمصَّافِ ولاية كاليفورنيا الأمريكية التي هي الأخرى استعمرها الأمريكيون من المكسيكيين و استقروا وازدهروا فيها وهي التي لو كانت مستقلةً عن الولايات المتحدة لكانت أقوى رابع اقتصادٍ في العالم. ناتج الدخل القومي الكلي العربي لعام ٢٠٢٤ هو ٣,٦ تريليون دولار مع عوائد النفط والغاز و الناتج في كاليفورنيا لوحدها هو ٤,١ تريليون دولار. كما يبتكر الاقتصادي وعالم الاجتماع مؤشراتً للدلالة على التقدم و في حالتنا حيث النفط هو العامل المساعد لتقدم الدول والمُشَوِّه للمؤشرات التنموية يستخدم المفكر الباحث نموَّاً بوجود عوائد النفط و بتغييبها من الحساب.  هذا في الدول النفطية، ولكننا لسنا كلنا نفطاً وغازاً و شعوبنا غير النفطية يزداد تعدادها و شبابنا فيها هم الفئة الأكثر و بطالتهم لا تخفى وكل نفط العرب وغازهم لم يستطع أن ينتشلَ عرباً كُثُراً جداً من الفقر و لكنه حَوَّلَ هو والاستقلال والاستقرار والازدهار عرباً آخرين لمخلوقاتٍ تتنفس مالاً و تلفظهُ بدون حساب.
هكذا أراد الاستعمار الذي علمَ أنه سيخرج بظواهرهِ فخرج من الباب وعاد حثيثاً من الأبواب والنوافذ عبر الشراكات والشركات ومعاهدات التعاون والدفاع والمنح والقروض وتغييرٍ لمجتمعاتنا يمحوها ويعيد تشكيلها فلا هي بقيت عربيةً ولا صارت غربيةً.  استقلالنا لم يعنِ استقراراً ولا ازدهاراً بفضل ذكاء الاستعمار وبفضل المهتمين بإرضاءه  و إرضاء محيطهم المستفيد و المصفق و الساتر والحامي، على حساب الشعوب.  لعام ٢٠٢١ كانت نسبة الفقر في العالم العربي ٤١٪؜ ومهيئةً لتتجاوز ٦٠٪؜ من السكان، حتى أن الفقر ينال من مواطني دول الخليج العربي. أما بطالة الشباب العرب فتتراوح بين ٢٥٪؜ و ٤٠٪؜ حسب البلد العربي. كل البلاد العربية “تتميز” بمظلماتٍ متعددة الأصول لم يسعفها الاستقلال والاستقرار والازدهار و يفاقمها النفوذ الاستعماري و المصالح الداخلية وإلا لما كانت “إسرائيل” التي وإن صنعها الغرب المستعمر و يرعاها فإن بقاءها هو كبيرةٌ من كبائر العرب الراغبين في الاستقرار و الازدهار و الخائفين من أن تكون مواجهة “إسرائيل” وخيمة عليهم. لكننا لا ننكر أننا أيضاً نتميز بوجود تنميةٍ و تقدمٍ و تقنيةٍ وأمنٍ وأمانٍ يستمتع بهم العربي هنا وهناك لكن بالتوازي وفي بعض الأحيان بالتجاور بنفس البلد مع مجازر و مجاعة وفقر و حروب أهلية وانعدام ثقة بالمستقبل.  فجواتٌ عربيةٌ كالرُقَعِ في قصيبِ الثوب الذي نلبسهُ جميعاً. نحنُ كاإنسانٍ نصفهُ محروق ونصفه طبيعي والنصفين يتجاهلان بعضهما البعض.
لهذا لفتَ نظري تصريح وزير خارجية سوريا الراغب لبلاده سوريا بالاستقرار والازدهار بعد إشادته بقرار أمريكا وقف العقوبات ضد سوريا.  هذا بعد أن حملت الأخبار توقيع عقدِ أو اتفاقِ بناء برج دمشق الأعلى في المنطقة و توقيع اتفاقيةٍ لدعم الفنون في سوريا تعزيزاً للازدهار، وإن أَلْحَظُ في ذات الوقت تعليقاتٍ كثيرةٍ لسوريين يشتكون من قلة الماء و تقنين الكهرباء وتأخر الرواتب وهي مشاكل مزعجة قد ترى بالفعل حلولاً عند انسياب التعاون المربوط بوقف العقوبات. وبالطبع هناك سوريين يرون هذه المصاعب مرحلةً ستزول وقد لا يلقون بالاً للتطبيع المتوقع فقد اكتفوا من المشقات الجسام التي عانوها تحت حكم البعث والعائلة بمختلف الطوائف بالمناسبة والفساد الذي عبرَ الطوائف كذلك وينتظرون ازدهاراً لجيلهم وللأجيال القادمة حتى لو لجأت بلدهم للسلام مع الصهيونية.  لكنني مع عميق محبتي لسوريا أضطر لذكرِ كل هذا مع الوارد من أنباءٍ متسارعةٍ و يبدو أنها جَدِّية عن التطبيع مع “إسرائيل” أو التنسيق الأمني الثنائي والإقليمي من خلال مباحثاتٍ مباشرة وبالواسطة.
هو خبرٌ مؤسٍفٌ بل صاعقٌ أن يكون الازدهار والاستقرار السوريَيْن مرتبطين بالتطبيع. والصاعق أن تكون أجزاء من سوريا محتلةً “إسرائيلياً” و أمريكياً و تركياً بالمعيةِ و مجزأةً كُردياً و بنفس الوقت تكون مستقلةً تسعى للازدهار والاستقرار في ظل هذا الاستعمار الذي لسنوات طويلة ما قبل تغيير النظام كان قد فرض نظام الحصار والعقوبات على سوريا الذي بالتزامن مع سوء الإدارة والفساد قادا سوريا للأزمات المختلفة، وربما لو طبعت سوريا مع “إسرائيل” منذ سنوات لكان الحصار المرير انتهى ولما كانت هناك ثورة، لكن سبباً ما منعها يقول المؤيد للنظام السابق أنه الوطنية ويقول المعارض أنها التورية لأن “النظام” كان عميلاً. لكن كيف لثورةٍ على النظام “العميل لإسرائيل” تمت بمسميات العدالة والتحرير أن ترضى بالتطبيع مع ذات الكيان وهو استعماريٌّ بالفطرة الشيطانية و ضد العدالة الإنسانية بكل أوجهها في الكون الفسيح، وكيف يكون هذا في سوريا المستقلة لكنها أيضاً المُستعمَرةٌ عن يمينٍ وشمال؟
يستدعي هذا نوعاً من جردةِ الحساب للتطبيع.  الدول العربية التي تعاهدت السلام مع “إسرائيل” ليست بأحسنِ حالٍ و يكفينا دليلاً متابعة التهديدات الصريحة والمبطنة الصهيونية للأردن ومصر لم يكن آخرها المطالبة بالحرب الباردة مع مصر والتحريض الواضح ضد قوتها العسكرية ومشاريعها المدنية أو تصريح الرئيس المصري أن التطبيع مع الرفض الشعبي ليس خياراً.
وأردنياً لا تتوقف الصهيونية عن العملِ لإسقاط الوصاية الهاشمية في الأقصى بكل الوسائل الدنيئة والتصريح ببناء الهيكل والتهديد بدفع الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة للأردن باعتباره الوطن البديل أو حجب المياه ونشر الجيوش بطول الحدود وبناء الجدران الذكية.  ربما كان المستفيد الوحيد من التطبيع دولة الإمارات و مملكتي البحرين والمغرب، رغم السخط المغربي الشعبي وغياب كل احتجاج شعبي ملموسٍ إماراتي وبحريني رغم اعتقادي أنه احتجاجٌ موجودٌ كامنٌ في القلب وخائفٌ. ولهذه البلاد أسباباً للتطبيع ليس مجالنا الآن تحليلها ومهما كانت منطقيةً لمن يؤمن بها فإنها مرفوضةٌ من كل مؤمنٍ يعي حقيقةَ الصهيونية.
ولعل لذلك سوريا في حالتها الضعيفة هذه تنظر بعين الاعتبار لاختلافها عن هذه الدول العربية الثلاثة المستقرة والبعيدة، و هذا البعد ربما يبرر التطبيع، واقترابها كثيراً من النموذج السوداني الذي رأى تطبيعه مع “إسرائيل” في لقاءاتٍ من كمبالا للخرطوم يتحول فألاً بائساً في محرقةٍ سودانيةٍ لا ينظر لها العالم وينتشرُ فيها كل ما هو ضِدٌّ للازدهار والاستقرار والاستقلال ويعلوها التدخل الاستعماري العربي و غير العربي. فإن كان السودان البعيد يخوض معركةً للبقاء واحداً مُتحداً فكيف بسوريا؟
 آمِنوا أن التطبيع لا يأتي بالمسرات و إن انتشت بلادٌ به فإنما هي نشوةٌ مؤقتةٌ ريثما يتمكن السمُّ الصهيوني من فرائسهِ. باختصار، لا استقلال ولا استقرار ولا ازدهار مع الاستعمار. و الصهيونية هي السرطان الكوني بل هي إبليس و السامري في جسدٍ واحد تخترع العجل التطبيعي ليعبده الجاهلون. و لا ينفع معها إلا نسف العجل و حرقه!

الأردن

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: