سعيد المرابط: “دقة مورا دقة”.. جيل “طوطو” هل هم أبناء “المغرب الجديد”

سعيد المرابط: “دقة مورا دقة”.. جيل “طوطو” هل هم أبناء “المغرب الجديد”

سعيد المرابط: “دقة مورا دقة”.. جيل “طوطو” هل هم أبناء “المغرب الجديد”

 
 

سعيد المرابط
“أسوأ المشاعر على الإطلاق هو الشعور بأن الأمل قد مات”
فدريكو غارثيا لوركا
في مهرجان “موازين” وعلى منصة السويسي نهاية الأسبوع الماضي، حيث كان صدى أصوات يعلو يعلو مخترقًا المدى بكل جسارة، اعتلى مغني الراب المغربي “الغراندي طوطو” خشبة العرش، لا كضيفٍ في أرضٍ ليست له، بل كمالكٍ قادم لتسلم مفاتيح عهدٍ صاخب… عهد “جيل طوطو”، بلفافة حشيش وعبارة “سلگوط”..
تدفقت الجماهير كالسيل، آلاف من الشباب والمراهقين، معتَكفين على خشوعِ كلماتٍ تَعبق بروائح الحشيش، الرفض والسخط المقدس، كان منهم من راح يغني “ألو البزناس”، كأنها ترنيمةُ نجاةٍ من واقعٍ يَختنق، واقعٌ مات فيه الأمل، واقع يهربون منه عبر تأشيرات “البزناس” الموقعة بالمخدرات..
لماذا العجب؟
من يتعجب من “طوطو”، يبدو أنه لا يعيش حياة وظروف هذا الجيل، جاهل حد التلف بدقّات جيلٍ لا تصفه سوى؛ “دقة مورا دقة”، كما قالت “ناس الغيوان” في صرختهم الصادقة، ذات زمن مضى!
هو جيلٌ عاش في ظل دولة تقول “اللهم كثر حسادنا”، لكنها لم تكثِر الخبز في أيادي الفقراء… لم تجد لهم جوابا لسؤال “شكون يحد الباس”، ولم تبحث له عن حلول توعية بقدر ما كانت تعمق هاوية السقوط..
إنه جيلٌ يهرب من المدارس كما يهرب من الموت في الحياة، لأنه لم يرَ في التعليم طوق نجاة، بل زنزانةً أخرى! هو جيلٌ ولد وهم “العهد الجديد”، ثم وجد نفسه ضحية سياساتٍ تُبدع في الإنفاق على المهرجانات وتبخل في تمويل المدرسة العمومية..
المنصات تُعلي من نريد أن نُسكتهم
لم يكن صعود “طوطو” لمنصة السويسي مجرد حفلة، بل علامة؛ فقد انتهت عقود الاحتكار التي كانت تقصر المنصة على الفنانين الأجانب، وها هو فنان مغربي يفرض شروطه، ويتصدر الصفوف، وتحج إليه الناس كأنه مزارٌ مقدس، لكن، بأي ثمن؟
قدم الشاب عرضه بـ”البلاي باك”، ورغم ذلك، ردد الجمهور كل كلمة… بما فيها الكلمات النابية! بعضهم رآها قمة الانحدار، وآخرون سموها تعبيرًا حرًّا..
لكن السؤال الأعمق ليس هو هل يجب أن نسمح بـ”طوطو؟”، بل، كيف أنجبنا طوطو؟ كيف أنجبنا جيلًا يرى في أغاني المخدرات والعنف خلاصًا؟ كيف أصبح “الراب” لغة رسمية لجيل يرفض لغة الوطن؟
جيل الهروب الكبير
هذا الجيل الذي صدم الجميع، هو الجيل ذاته الذي تسلق الأسوار في محاولة لبلوغ سبتة، لعل في الضفة الأخرى معنىً للحياة..
يومئذ خرج الناطق الرسمي باسم الحكومة ليخبرنا بثقة أن الأمن منع 3000 شاب من عبور الحدود، وكأنه يفاخرنا بفشلهم في الهرب!
لكن من يُخبرنا كم منهم كان يحمل في قلبه جملةً مثل التي أبدعها محمود درويش في قصيدة “حالة حصار”، “نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل. نربي الأمل”، إنه جيل يجب درويش والدولة معًا، إذا كان السجناء يربّون الأمل في زنازينهم، فلماذا لا نحاول تجاوزه بالنجاة من تلاطم الأمواج ولو بالركوب على قشرة موز؟
إنهم لم يركبوا الموز، بل واجهوا الأمواج بأجسادهم العارية، مدفوعين بحلمٍ ما عادت الأرض تحمله، إنهم لم يحجوا إلى “طوطو” بل إلى صوت يترجم ضياعهم بعبارة “سلگوط” التي كتبت على مقدمة قميصه، وهي على فكرة فرصة للرجوع إلى مقدمة ابن خلدون الذي يرى أن “اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش”..
جيل NEET… جيل لا مستقبل له
المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أخبرنا بالوقائع ذات يوم، قال واصفًا هذا الجيل بشيء يشبه مبضع الجراح، أنهم “شبابٌ تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، خارج المدرسة، خارج التكوين، خارج العمل”..
إنهم جيل “نيت” (NEET)؛ جيل لا يشتغل، ولا يُدرّس، ولا يُعلَّم؛ جيل مكسور من الداخل، لكنه يصرخ بالراب في الخارج، ولأن لا أحد يصغي، اختار أن يُسمِع العالم صوته من أعلى المنصات..
رُبعُ المغاربة لا يزالون غرباء عن الأبجدية؛ ففي بلدٍ يُلوّح بخطاب “التحول الرقمي” و”النموذج التنموي الجديد”، لا يزال واحدٌ من كل أربعة مواطنين فوق سنّ العاشرة، أميًّا، لا يُجيد قراءة جملة، ولا كتابة اسمه كما يجب..
أما من عبروا عتبة الخامسة والعشرين، فالغالبية منهم توقّف بهم الدّرس في محطات بدائية؛ لا إعدادي، ولا حتى أساسي في بعض الأحيان… جيلٌ كامل تَركتْه الدولةُ يتآكل عند الحواف، بين مدارس لا تُعلّم، ومناهج لا تُفكِّر، وفضاءات لا تفتح سوى أبواب الملل والانسحاب..
وقد جاء إحصاء 2024، الذي قدّمه شكيب بنموسى، المندوب السامي للتخطيط، لا ليُفاجئ أحدًا، بل ليؤكّد ما يعرفه الجميع ويصمتون عنه؛
25 بالمائة من المواطنين لا يزالون في العتمة، رغم أن النسبة كانت أسوأ سنة 2014 (32 بالمائة)..
لكن ما لم تقله الأرقام، هو أن هذه الأمية ليست فقط نقصًا في المهارة، بل نفيٌ للكرامة، وتجذيرٌ لهوّةٍ طبقية تجعل من الجغرافيا قدرًا، ومن المدرسة قفصًا لا محرابًا..
ولكن بدل التعجب، علينا طرح السؤال السهل والممتنع؛ بين منصة سويسي وسياج سبتة من المسؤول؟ ليس “طوطو” قطعًا، فهو ليس مشكلة، بل مرآة؛ مرآة لربع قرنٍ من سياساتٍ عاقرت الشعب بالصبر، ثم رفعت الكأس على نجاحاتٍ وهمية… مرآةٌ لجيلٍ حلم بالحياة، فقوبل بالهراوات، بالسجون، بالشعارات الجوفاء..
فهل نلوم “طوطو” لأنه صعد على منصة ترعاها الدولة، أم نلوم الدولة لأنها أنزلت جيلاً بأكمله؟
جيل “المغرب الجديد”
لقد انتهت البالونة التي نفختموها بكذبة “العهد الجديد”، وثقبتها صور القاصرين يطاردهم الأمن، لا لأنهم مجرمون… بل لأنهم أرادوا الرحيل، ثقبتها أفواج حجيج “طوطو” من كل فج عميق..
وهكذا، فإن جيل “طوطو” ليس انحرافًا عابرًا في خارطة الأخلاق، ولا نشازًا طارئًا في نوتة الهوية، بل هو التجسيد اللحميّ، الملحمي، الفاضح، لطفل الدولة حين تكبر ويكبر معها فيه هشاشتها المعشقة بالفساد..
هو الابن الطبيعي لسنواتٍ طُبِعت فيها التنمية بالشعارات، التدبير بالتدمير، التعليم بالإصلاح المخرب، والثقافة بالريبة، والفن بالوصاية، جيل ولد في أكمة الإحباط وتربى بين نصال اليأس التي تتكسر على نصال الاستبداد… جيلٌ لا يسكن في هوامش المجتمع، بل في متنه المتصدّع، وفي قلبه الذي لم يعد يعرف إن كان ينبض بالوطن، أم ظل الوطن..
وطنٌ لن ينتزع الغد ما واصلت “البنية السرية” تنشب مخالبها في جسده المثخن بالجراح، وما دامت راحة أعضاءها أولى بحقوق الوطن من مشرديه في الأزقة والحارات، واللص المتكرش بالامتيازات أولى من عاصب البطن في بيداء الجوع..
يا للمصادفة، جيل “طوطو” ولد وترعرع مع العهد الجديد، وإذا أراد القائمون على الأوضاع فهم جيل “طوطو” فلا يستعينوا بالخبراء ولا بلجان تقويم الانحراف السلوكي، بل ليقرأوا “مديح الظل العالي”، ففيها سيجدون مرثية، بل مرآة.
جيل “طوطو” ليس سؤالًا عن الذوق، بل عن العدالة، ليس تمرّدًا على النظام، بل على الفراغ اللزج! فإن لم يُفهم الآن، وإن أُغلِق الباب في وجهه مرةً أخرى، فإن الانفجار المقبل لن يُعلن عنه في أغنية، بل في الواقع ذاته..

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: