
محمد المخلافي: مارك زوكربيرك بوصفه (شيطان الشعر) الجديد
محمد المخلافي
في كتابه (شجون الغريبة … تحولات قصيدة النثر من صفحات “مجلة شعر إلى صفحات الفيسبوك) الصادر عن دار عناوين بوكس –القاهرة 2023م، يخصص الشاعر والناقد علوان مهدي الجيلاني، فصلاً يدرس فيه (قصيدة النثر الفيسبوكية بوصفها صعقة ذهنية)، الفصل المشار إليه واحد من فصول الباب الرابع من الكتاب (من ص125 إلى ص 143)، والحقيقة أن ما جاء في هذا الفصل يعدّ دراسة غير مسبوقة مقارنة بدراسات أخرى تناولت (قصيدة النثر الفيسبوكية) بوصفها ظاهرة شعرية جديدة، وبوصف دالّة على الأثر العميق لفيسبوك على حياتنا وتصوراتنا.
تقوم الدراسة على مقارنة بين الشعر العربي القديم (مثل رثاء الأطلال) وقصيدة النثر الفيسبوكية الحديثة، وعلى مقارنات أخرى بين محفزات القول الشعري في التراث القديم، ومحفزات القول الشعري على منصة فيسبوك، وإلى جانب المقاربات التاريخية والثقافية للشعر في سياقاته المتغيرة، تركز الدراسة على تحليل المضمون والثيمات التي تتناولها القصائد، وكيفية انعكاس التحولات الاجتماعية والنفسية التي أحدثتها منصات التواصل الاجتماعي في تلك النصوص.
الدراسة تعكس وعياً عميقاً بالتحولات التي طرأت على الساحة الشعرية العربية خلال العقدين الماضيين، وهي تحولات أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي؛ وفي هذا السياق نستطيع التأشير على عدة متغيّرات تطرقت إليها الدراسة:
أولّها: تشوه إدراك الزمن؛ حيث تُبرز الدراسة كيف أن فيسبوك يغير إدراكنا للزمن، وذلك عبر إعادة تدوير المحتوى القديم في سياقات جديدة، ما يجعلنا نشعر بالحضور والغياب في آن واحد، وهذا يمثل تحدياً للطبيعة الخطية للزمن التي اعتاد عليها الشعر.
ثانيها: تحول الفضاء الأزرق (فيسبوك) إلى مساحة جديدة للتعبير الشعري، حيث يحاول الشاعر التقاط اللحظات الرقمية العابرة وتخليدها، على غرار ما فعله الشعراء القدماء مع مشاهد الصحراء الزائلة؛ والجيلاني يعتبر تلك الحالة دلالة على استبدالات قوية، كما يعدها (تأشيراً على وجع وجودي صار يصيب الشاعر. إنه وجع يشبه وجع الشاعر الجاهلي وهو يقف على مضارب الراحلين، يتأمل بحزن سرعة زوالها بعد أن عفتها الرياح وطمست آثارها، يتعلق الأمر بسرعة تلاشي الأشياء على صفحات فيسبوك، تظهر المنشورات والصور بسهولة ويتم التفاعل معها بسهولة، ثم تختفي بنفس السهولة، تتوارى في أعماق الصفحة خلف سيل جديد من المنشورات) شجون الغريبة، ص139.
ثالثها: تحول مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، إلى محفز شعري أو ملهم للقصيدة لدى الجيل الجديد من شعراء قصيدة النثر العربية، وهم تحديداً الشعراء الذين ينشرون قصائدهم على منصة فيسبوك مباشرة، وتتسم قصائدهم بسمات مميزة (سيأتي ذكر بعضها)، وبسبب تلك السمات أطلق الجيلاني عليها هذا الاسم (قصيدة النثر الفيسبوكية)، ويمثل تحول مارك زوكربيرك، مؤسس فيسبوك إلى محفز شعري، أو ملهم للقصيدة إلى ظاهرة مثيرة للاهتمام في الشعر العربي المعاصر، فالجيلاني يرى أن زوكربيرك قد حل محل المحفزات الشعرية التقليدية في الثقافة العربية؛ فبعد أن كان الشاعر يناجي الطلل، أو رفاق الرحلة، أو الليل، أو يكتب بالورقة والقلم، أصبح يخاطب مارك زوكربيرغ بوصفه رمزاً للفضاء الافتراضي؛ الأكثر من ذلك، يعتبره الجيلاني ملهماً ومحفزاً للكتابة، أشبه بـ (شيطان الشعر) عند العرب القدماء، أو (أبولو) إله الشعر عند الإغريق.
وبدهشة كبيرة يسوق الجيلاني عديد النصوص الشعرية الفيسبوكية، التي تؤكد؛ كيف أن سؤال فيسبوك المباشر (بم تفكر؟) على الصفحة الشخصية، أصبح بمثابة المحفز الأساسي للقول الشعري، فالشاعر قد يواجه صفحته على فيسبوك وهو يشعر بخواء فكري، ثم يتنقل بين الصفحات الأخرى، يتماهى في الفضاء الأزرق، حتى تتكون المحفزات ويشعر برغبة في الكتابة، وكأنه يناجي حليلته أو يتلقى إلهامات، ليواجهه أخيرًا السؤال الأكبر “بم تفكر؟” الذي يفجر فيه القول الشعري، وهو ما يوازيه الجيلاني بالسؤال التقليدي (ما قال؟) الذي كان يحفز الشعراء الشفاهيين في مناطق مثل تهامة، مؤكداً أن هذا التوازي يشير إلى أن التغيير ليس قطيعة كاملة مع الماضي، بل هو تقاطع معه، وإعادة إنتاج معاصرة لمواضعات وتقاليد المخاطب المتوهم في القصيدة العربية.
دراسة الجيلاني تتطرق إلى نقطة نقدية مهمة كان قد أثارها الناقد وليد الخشاب، وهي فرادَة هذه الظاهرة في الثقافة العربية، حيث نلاحظ نزعة تجسيدية وتشخيصية، ممزوجة بالسخرية أحياناً، تصور منصة فيسبوك وكأنها لعبة تحت سيطرة شخص واحد هو مارك زوكربيرغ، وكأنه يتابع كل تفصيل يُنشر، ويُشار إليه بكثرة في التعليقات بصيغ مختلفة، أو تتم مخاطبته شخصياً بالعربية.
ويتساءل الجيلاني عما إذا كانت ظاهرة تحول مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، إلى محفز شعري أو ملهم للقصيدة لدى الجيل الجديد من شعراء قصيدة النثر العربية؛ ظاهرة تقتصر على شعراء قصيدة النثر الفيسبوكية في اللغة العربية، أم أن لها نظيراً بنفس القوة في اللغات الأوروبية، وغيرها من اللغات الأخرى، معترفاً بأن التأكد من كون هذه الظاهرة لا نظير لها في اللغات الأوروبية واللغات الأخرى؛ يحتاج إلى تحقق واسع. ومع ذلك، يؤكد على أهمية تحققها القوي في الثقافة العربية، وراهنيتها الهائلة في تعاملنا اليومي مع هذا الفضاء الافتراضي، فالمهم هنا هو المساحة الواسعة التي استحوذ عليها مارك زوكربيرغ كـ (مخاطب متوهم) أو محفز للقول، والتي تعيد إنتاج تقاليد الخطاب الشعري العربي القديم بطريقة معاصرة.
رابعها: ملاحظة أن توسع أدوار فيسبوك على قصيدة النثر الجديدة لا تتوقف، كما أن استحواذاته واستبدالاته تتجاوز كثيراً تقديراتنا، فالمنصة صارت تقوم بأدوار كانت تؤديها جهات مختلفة في السابق، مثلاً: يقوم فيسبوك بدور الراوية الذي كان ينقل أشعار الشاعر وأخباره، في زمن الجاهلية وصدر الإسلام، كما أن الجدار في فيسبوك يشبه حائط الكعبة في زمن المعلقات الشعرية قبل الإسلام، أيضاً يحل فيسبوك محل وسائل النشر التقليدية (الصحف والمجلات) التي عرفت حتى عهد قريب، كما يحلَ محل قاعة الأمسية الشعرية، ومحل الندوة الأدبية، ومحل المهرجان الشعري؛ فبمجرد الضغط على زر النشر، تصبح صفحة الشاعر بمثابة قاعة عرض للقصيدة، حيث يتواجد الجمهور الافتراضي جاهزاً للتفاعل المباشر.
أما بالنسبة للسؤال الذي طرحه الجيلاني في دراسته؛ وهو: هل الظاهرة حصرية على الشعراء العرب؟ فإن الإجابة عليه تبدو صعبة جداً، فبحسب معرفتي باللغة الإنجليزية، يمكنني القول إنه توجد العديد من القصائد والمقالات النقدية في اللغة الإنجليزية، تتناول فيسبوك كظاهرة اجتماعية وثقافية، لكن موضوعاتها تختلف تماماً؛ إذ هي تركز على ظاهرة إدمان الفيسبوك وتأثيره على الأفراد وعلاقاتهم، كما تركز على الشعور بالوحدة رغم كثرة الأصدقاء الافتراضيين، وتهتم بتأثير فيسبوك على شعور المستخدمين بالهوية والصورة الذاتية، والمخاوف المتعلقة بجمع البيانات واستخدامها.
مثلاً: هناك قصائد معروفة مثل (فيسبوك سونيت) (The Facebook Sonnet) للشاعر شيرمان أليكسي، وقصائد للشاعر براين بيلستون، والتي تشخصن فيسبوك بحد ذاته، وتتناول تأثيراته النفسية والاجتماعية، أيضاً وجدت بعض الأمثلة لنصوص شعرية أو مقالات تخاطب مارك زوكربيرغ مباشرة. ولكن، هذه المخاطبة عادة ما تكون ذات طابع نقدي أو احتجاجي، خاصة فيما يتعلق بقضايا مثل انتهاكات الخصوصية أو تأثير المنصة على المجتمع (مثال: قصيدة “Dear Mr Mark Zuckerberg….Do Not Give Away Our Data”). كما توجد قصائد فكاهية أو تعليقات خفيفة الظل تذكره كشخصية عامة، لكنها لا تنظر إليه كـ (ملهم شعري) أو (مارد يفحفز على القول)، إضافة إلى ذلك نجد بعض المقالات تناقش دور الشعر أو الفنون في إلهام قادة الأعمال، بمعنى أن قادة التكنولوجيا هم من يتحدث عن تأثير الشعر على ابتكاراتهم، لكن تلك المناقشات لا تشير إلى أن الشعراء في اللغات الأوروبية يتجهون لمخاطبة الرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا (بما في ذلك زوكربيرغ) بوصفهم (آلهة شعر) أو (شياطين ملهمة) للقول الشعري.
قد تكون النزعة التجسيدية والتخاطب المباشر مع مارك زوكربيرغ كـ (شيطان شعر) أو (حليلة) (كما ورد في السياق التهامي)، ظاهرة تتميز بها الثقافة الشعرية العربية، أو لنقل إنها أكثر وضوحاً وتأصيلاً في سياقها الثقافي في اللغة العربية مقارنة بالسياقات الثقافية في اللغات الأوروبية، حيث نستطيع التأكيد على أن العلاقة بين الشاعر والمنصة ومؤسسها في تلك اللغات تبدو مختلفة؛ فهي أقل ميلاً إلى الأسطرة، أو هي أقل روحانية وتأليهاً.
كاتب وباحث من اليمن
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: