شركات تتوسع وأخرى تتراجع تحت وطأة “رسوم ترامب” الجمركية

شركات تتوسع وأخرى تتراجع تحت وطأة “رسوم ترامب” الجمركية

القطاع الصناعي يفقد 8 آلاف وظيفة بين أبريل ومايو رغم الزيادة العامة في التوظيف على مستوى الاقتصاد

تستورد شركة “غير موشنز”، وهي شركة تصنيع مقرها نيويورك، نحو 4% فقط من مكونات منتجاتها من خارج الولايات المتحدة، بينما تعتمد في الغالب على موردين محليين.

ورغم صِغر هذه النسبة، فإن الرسوم الجمركية الأساسية البالغة 10%، التي فُرضت منذ أوائل أبريل، تدفع الشركة إلى تحميل العملاء تكاليف الزيادة في الأسعار، بحسب ما أكده الرئيس التنفيذي دين بوروز، مشيراً إلى أن شركته المتخصصة في تروس القطع المخصصة حاولت مراراً إيجاد بدائل محلية، لكن دون جدوى.

وقال بوروز: “لم نتمكن من العثور على مصدر أمريكي قادر على تصنيع هذا المنتج، وقد بحثنا على مستوى العالم”.

وتستهدف الرسوم الجمركية تصحيح هذا الواقع، إذ تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى “عكس عقود من العولمة التي دمرت قاعدتنا الصناعية”، وفقاً لبيان صادر عن البيت الأبيض في أبريل.

لكن إعادة إحياء الصناعة الأمريكية قد يستغرق سنوات، بينما يشكك خبراء الاقتصاد في قدرة هذه التعريفات وحدها على استعادة أمجاد التصنيع الأمريكي، حسب ما نقلته صحيفة “يو إس إيه توداي” الأمريكية.

وفي غضون ذلك، تميل العديد من الشركات الأمريكية المعتمدة على الاستيراد إلى تحميل المستهلكين كلفة التعريفات بدلاً من نقل سلاسل التوريد إلى الداخل.

ووفقاً لتقرير صادر عن وزارة التجارة الأمريكية عام 2022، فإن ما يقرب من ثلث المدخلات الوسيطة للمصنّعين الأمريكيين تُستورد من الخارج.

في هذا السياق، تقول أستاذة الاقتصاد في كلية كيلوج للإدارة بجامعة نورث وسترن، نانسي تشيان : “على المدى القصير، ستضر هذه التعريفات بالمصنعين وأصحاب المصانع والعمال .. وهذا فوق الألم الذي يشعر به المستهلكون عندما يضطروا لدفع أسعار أعلى مقابل سلعهم المستوردة”.

لماذا لا يُعد الانتقال إلى الموردين الأمريكيين حلاً سهلاً دائمًا؟

الانتقال إلى موردين محليين ليس دوماً حلاً سهلاً، إذ تهدف تعريفات ترامب إلى ترسيخ مكانة الولايات المتحدة كـ”قوة عظمى في التصنيع”، من خلال جذب الاستثمارات الجديدة والمصانع.

وقال بيتر نافارو، كبير مستشاري ترامب التجاريين، في مقابلة مع شبكة “سي إن بي سي”، إن “الرئيس قال مراراً إن أفضل وسيلة لتفادي التعريفات الجمركية هي القدوم إلى هنا والإنتاج محلياً .. سنصل إلى مرحلة تعود فيها أمريكا لصناعة المنتجات مجدداً”.

لكن نقل سلاسل الإمداد إلى الولايات المتحدة قد يكون مكلفاً للغاية.

فقد أشار استطلاع أجرته شبكة “سي إن بي سي” في أبريل إلى أن نحو ثلثي 380 شركة استُطلعت آراؤها، أكدت أن إنشاء سلسلة توريد محلية جديدة سيضاعف تكاليفها الحالية على الأقل، فيما قال 61% من الشركات إنه من الأرخص الانتقال إلى دول ذات تعريفات أقل.

وأوضحت تشيان: “إذا واصلت الولايات المتحدة تركيزها على الصين، فقد تنجح في إخراج جزء من الإنتاج من هناك، لكنها لن تعيده بالكامل إلى الداخل الأمريكي .. فهناك العديد من الدول الأخرى القادرة على التصنيع بتكاليف أقل من الولايات المتحدة”.

حتى في حال أدت التعريفات إلى تعزيز التصنيع الأمريكي، فإن بناء مصانع جديدة سيستغرق سنوات، ما قد يترك الشركات الأمريكية في مأزق مؤقت للعثور على موردين محليين.

فعلى سبيل المثال، تقول هانا تشانج، المؤسسة الجديدة لشركة مستحضرات التجميل “000 سكين”، إن شركتها تتخذ من نيويورك مقراً لها، لكنها اعتمدت على موردين صينيين لتوفير عبوات مستحضرات العناية بالبشرة، نظراً لقدراتهم التصنيعية الفائقة.

وأضافت: “أعتقد أن الناس لا يدركون مدى التعقيد والبنية التحتية المطلوبة لصناعة عبوة بلاستيكية واحدة”.

لكن الارتفاع في تكاليف الاستيراد الناتج عن التعريفات شكل لها صدمة، حيث بحثت عن موردين أمريكيين بديلين لكنها لم تجد من يضاهي جودة وأسعار نظرائهم الصينيين.

كما فكرت بالانتقال إلى مصنع في المكسيك، لكنها وجدت صعوبة في العثور على من يتعاون مع الشركات الصغيرة.

وقالت: “ربما سأستمر في التعامل مع شركاء صينيين .. وأفكر حالياً في رفع الأسعار للتعويض عن نسبة التعرفة التي تبلغ 30%”.

أما كورتني ريفنبارك، التي أطلقت علامتها التجارية للأزياء والمجوهرات “كوكو كليم” عام 2018، فقد فكرت في البداية بالتصنيع محلياً، لكنها وجدت أن التكاليف مرتفعة للغاية، ما دفعها إلى الشراكة مع مصنع صيني يلبي معاييرها الأخلاقية والبيئية.

وقالت إن “الصين متقدمة جداً من حيث المعدات والتكنولوجيا “. فكل سلاسل التوريد موجودة هناك من الأقمشة إلى خيوط القطن العضوي المعتمد بشهادة المعيار العالمي للنسيج العضوي (GOTS).

بعد إعلان ترامب عن تعريفات جديدة في وقت سابق من العام الحالي، قارنت ريفنبارك الأسعار بين الصين والمصانع الأمريكية، لتكتشف أن تصنيع السترة نفسها في الولايات المتحدة سيكلفها ثلاثة أضعاف، في وقت تفتقر فيه المصانع المحلية إلى التكنولوجيا اللازمة لصناعة الملابس بمقاسات كبيرة.

وأضافت ريفنبارك: “كنت سأحول الإنتاج للولايات المتحدة لو كانت البنية التحتية متوفرة .. لكن التكلفة باهظة جداً، ولست مهتمة بنقل التصنيع من الصين تحسباً لتغير مؤقت في السياسات”.

كم عدد المصانع والوظائف القادمة إلى الولايات المتحدة؟

مع ذلك، هناك شركات دفعتها الضغوط الجمركية إلى تعزيز استثماراتها داخل الولايات المتحدة. إلا أن السؤال المطروح هو ما إذا كانت هذه التحركات ستقود إلى طفرة فعلية في الوظائف الصناعية.

ففي مارس الماضي، أعلنت شركة “كرا-زد-آرت” التي تتخذ من نيوجيرسي مقراً لها وتنتج الألعاب وأنشطة ولوازم مدرسية، عن خطط لتوسيع مساحة إنتاجها بنسبة 50% لتصل إلى 1.5 مليون قدم مربعة، بهدف مواجهة كلفة التعريفات.

وقال رئيس مجلس إدارة الشركة لورانس روزن إن الوقت لا يزال مبكراً لتحديد عدد الوظائف التي ستُضاف، مشيراً إلى أن الشركة تخطط للاعتماد على الأتمتة “كلما أمكن” لخفض تكاليف العمالة المباشرة.

وأضاف: “أحتاج إلى التحكم في مصير شركتي التي عمرها 102 عام، دون الاعتماد على تقلبات التعريفات العالمية… التصنيع محلياً يوفر علينا تكاليف الشحن، كما أن الأتمتة تساعد في تقليل التكاليف وتُتيح إنتاج العديد من المنتجات بتكلفة مماثلة حتى في ظل تعرفة 10% على الشحن”.

ووفقاً للموقع الإلكتروني الخاص بالبيت الأبيض، فإن سياسات ترامب جذبت استثمارات تصنيع جديدة بقيمة تريليونات الدولارات إلى الولايات المتحدة، ما ساهم في “تحفيز نمو الوظائف والابتكار والفرص في مختلف أنحاء البلاد”.

لكن بعض هذه الاستثمارات بدأ قبل دخول ترامب البيت الأبيض.

فعلى سبيل المثال، تشمل خطة شركة “ستيلانتيس” لصناعة السيارات استثماراً بقيمة 5 مليارات دولار لإعادة تشغيل مصنع متوقف في بلفيدير بولاية إلينوي لإنتاج الشاحنات، وهو اتفاق أُعلن عنه لأول مرة في عام 2023.

ورغم وجود حديث عن تأجيلات خلال عام 2024، أكدت الشركة في يناير التزامها بافتتاح المصنع عام 2027 كما اتفقت عليه في مفاوضاتها النقابية السابقة.

في السياق ذاته، قالت متحدثة باسم شركة “سيمنس هيلثينيرز”  الألمانية، التي أُدرجت ضمن قائمة البيت الأبيض، إن العديد من مبادرات الشركة ضمن استثماراتها البالغة 150 مليون دولار في منشآت أمريكية جديدة وموسعة، كانت قيد التنفيذ “منذ أكثر من عام”، لكنها سُرعت للتعامل مع تصاعد التحديات الاقتصادية والجيوسياسية.

من جانبه، قال مايكل ستراين، مدير دراسات السياسات الاقتصادية في معهد أمريكان إنتربرايز المحافظ، إنه لا يتوقع أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى إعادة جزء كبير من الإنتاج إلى الداخل.

وأضاف: “بناء مصنع في الولايات المتحدة يُعد استثماراً طويل الأجل لعشر سنوات أو أكثر .. كيف يمكن للشركات أن تتيقن من ربحيتها في ظل تغيّر معدلات التعريفة أسبوعياً؟”.

تشير بعض البيانات إلى أن قطاع التصنيع الأمريكي تلقى ضربة بسبب التعريفات الجمركية، إذ دفعت حالة عدم اليقين في السياسات التجارية بعض الشركات إلى تقليص نفقاتها.

فقد انكمش النشاط الاقتصادي في قطاع التصنيع الأمريكي في مايو للشهر الثالث على التوالي، ليصل إلى أدنى مستوياته منذ نوفمبر، بحسب استطلاع معهد إدارة التوريد، حيث انخفضت الطلبيات والإنتاج معاً.

وفقد القطاع الصناعي نحو 8 آلاف وظيفة بين أبريل ومايو، رغم الزيادة العامة في التوظيف على مستوى الاقتصاد، وفقاً لوزارة العمل.

وتقول سوزان هيلبر، أستاذة الاقتصاد في جامعة كيس ويسترن ريزيرف في أوهايو، والتي خدمت سابقاً ضمن طاقم البيت الأبيض خلال إدارتي أوباما وبايدن، إن التعريفات الجمركية قد تكون أداة مفيدة، لكن حالة عدم اليقين بشأن السياسة التجارية “تمثل مشكلة حقيقية”.

وأضافت: “أعتقد أن الشركات في هذه المرحلة لا تستثمر في أي مكان، بل تنتظر لترى ما الذي سيحدث”.