
د. فاطمة الديبي: حكاية صمود
د. فاطمة الديبي
(إهداء إلى الدكتور محمد كريم)
في قلب العاصمة النابض، ومع خيوط الصباح الباكر التي رسمت لوحة الأمل على جبين المدينة، حيث تتسارع دقات الزمن وتتعالى أصوات المطالب، وفي خضم وقفة احتجاجية رسمت على جبينها تاريخاً جديداً من الصمود، لم تكن مجرد حشود غاضبة، بل كانت أرواحاً تبعث الأمل. هناك، وعلى مقربة من وهج شمس تشرق على مستقبل مجهول، التقت روحان اقتربتا من الستين، لكن فيض الإصرار فيهما كان ينبع كجداول الأطلس والريف. لم يكن هذا اللقاء وليد الصدفة، بل هو قدرٌ نسج خيوطه بعناية، ليجمع “صامد” و”عالية” في محطة زمنية فارقة. سنواتٌ طوال مرت، عرف فيها كلٌّ منهما الآخر من صولاته وجولاته في ميادين النضال، دون أن تُتاح لهما فرصة المصافحة أو الحوار. اليوم، اختار القدر أن يجمع شتاتهما، لا للمطالبة بمكاسب مادية، بل لإشعال جذوة معركة الكرامة، واسترداد قيمة شهاداتٍ أضحت حبراً على ورق، وقلوبٍ أُنهكت من الانتظار.
صامد، ابن الأطلس الشامخ، الذي أمضى شبابه يبحث في دهاليز العلوم، مستنطقاً أسرارها بعقلٍ لا يعرف الكلل. وعالية، ابنة سفوح جبال الريف الأصيلة، التي ترعرعت على حب الكلمة، فغاصت في أعماق الآداب لتصوغ منها روائع، حتى باتت كاتبة ومبدعة لها عدة إصدارات أدبية، تردد صداها في أرجاء الوطن. كلاهما نهض من أُسر بسيطة، من صلب الشعب الكادح، لكنها أُسر أبَت أن يظل أبناؤها أسرى الجهل، فزرعت فيهم حب العلم وغرست فيهم الإصرار على تحقيق الذات والأحلام، مؤمنين بأن المعرفة هي السلاح الأمضى في وجه التحديات. قدِما إلى العاصمة اليوم، ليُسمعا صوت جيلٍ، وليثبتا أن شعلة النضال لا تنطفئ بتقدم العمر، وأن الكرامة ليست كلمات تُقال، بل حياة تُعاش.
بعد أن خفّت حدة الهتافات وتسللت فترة استراحة قصيرة، وجدا نفسيهما بالقرب من بعضهما البعض. بادرت عالية بابتسامة خجولة تحمل في طياتها حكاياتٍ لم تروَ، وقبل أن تنبس ببنت شفة، قال صامد، وعيناه تحملان وهج سنوات النضال: “أظن أننا نعرف بعضنا البعض من ساحات النضال، أليس كذلك؟”
ضحكت عالية، ضحكة رنانة كخرير جداول الريف: “بالتأكيد! مواقفك النضالية لا تُنسى. لم تُتح لنا الفرصة للحديث من قبل، لكن يبدو أن القدر أراد أن يجمعنا اليوم في قلب العاصمة، حيث تُصنع القرارات وتُسمع الأصوات”.
وهكذا، بدأ حوارهما، كأنما يعوضان سنواتٍ طوال من اللقاءات الضائعة. تبادلا الأسئلة عن الأسر والأولاد وما طرأ على حياتهما من جديد. كانت عيناهما تحملان قصصاً لا حصر لها عن الصبر والمثابرة. سرعان ما انتقل الحديث إلى جوهر المعركة التي جمعتهما، الوضع المأساوي لحاملي الشهادات العليا.
“أحياناً أشعر أن سنوات الدراسة ذهبت سُدىً”، قالت عالية بتنهيدة عميقة. “كل هذا الجهد والتفاني في سبيل الحصول على شهادة يُفترض أن تفتح لنا الأبواب، نجدها الآن لا تساوي شيئاً. ربما لهذا السبب وجدتُ في الكتابة متنفساً، لأروي قصص هذا الجيل الذي لم يُقدّر، جيلنا الذي خرج من أحضان البساطة ليصنع المستحيل”.
تجاوب معها صامد بحسرة : “تماماً، كأننا بنينا صرحاً عالياً ثم اكتشفنا أنه لا أساس له. لكن الأهم من الوظيفة والراتب هو رد الاعتبار لأنفسنا، لجهدنا وتعبنا. هذه معركة كرامة أكثر منها معركة مادية، وأنا متأكد أن كلماتك، يا عالية، أقوى من أي شعار. لقد علمنا آباؤنا أن العلم هو السلاح الوحيد للخروج من دائرة الفقر، وقد فعلنا ما بوسعنا، ولكن يبدو أن الصراع لم ينتهِ بعد”.
طال النقاش بينهما، وتعمق الحديث ليشمل تفاصيل حياتهما وتجاربهما الشخصية، اكتشفا أنهما ينتميان إلى “فصيلة العصاميين” الذين شقوا طريقهم بجهد وعزيمة، وبنوا أنفسهم بأنفسهم. أدركا أنهما من “جيل الصمود” الذي عرف معنى الصبر والنضال لتحقيق الذات، الجيل الذي تحمل كل الظروف الصعبة، ومضى قدماً في طريق العلم والعمل والمثابرة. لم يكن نضالهما مقتصراً على الساحات، بل كان جزءاً من تركيبتهما، طريقة حياة نُحتت بصخور التحديات.
في نهاية المطاف، لم يكن اللقاء بين صامد وعالية مجرد حوار عابر في يوم احتجاجي بالعاصمة، لقد كان بمثابة شرارة جديدة أشعلت جذوة الأمل في قلبيهما، وأكدت لهما أن معركتهما لم تنتهِ بعد، بل دخلت فصلاً جديداً. تبادلا أرقام الهاتف، لا كوعد بلقاءٍ آخر فحسب، بل كتعهد بالمضي قدماً، متحدين كقوة جديدة، يحملان على عاتقهما إرث جيل بأكمله. فهل ستكون هذه الشرارة كافية لتضيء دروب المستقبل وتُعيد للكرامة مجدها، أم أن الأيام تحمل في طياتها مفاجآت أخرى؟ الأكيد أن قصة صامد وعالية لم تصل بعد إلى نهايتها، بل بدأت فصولها الأكثر إثارة لتروي حكاية جيل رفض الاستسلام، ومعركة كرامة لا تعرف الهزيمة.
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: