مرشدة جاويش: ظلّ الأبد وتحوّلات المعنى قراءة فلسفية – تأويلية في النص السردي للشاعرة والناقدة السورية فاطمة عبدالله

مرشدة جاويش: ظلّ الأبد وتحوّلات المعنى قراءة فلسفية – تأويلية في النص السردي للشاعرة والناقدة السورية فاطمة عبدالله

مرشدة جاويش: ظلّ الأبد وتحوّلات المعنى قراءة فلسفية – تأويلية في النص السردي للشاعرة والناقدة السورية فاطمة عبدالله

مرشدة جاويش
النص:

“ظل الأبد”
أنا السراب الذي لا يشيخ، ظل يتراقص بين الحضور والغياب، وعد معلق بين الفناء والانبعاث.
كلما حسبت أنني تلاشيْت، وجدتني أتسلل من بين أصابع العدم، كوميض يتجدد كلما أطبقت الظلمة على الأفق.
أنفاسي شررات، وصمتي اشتعال مؤجل، يترصد لحظة الانفجار، كبُركان هادئ في ظاهره، لكنه في عمقه يخبئ صخب الخلود.
أيها الأفول المتكئ على عنق الضوء، لن تخمدني.
كم مرة سحبت النهار إلى جوفك، متوهماً أنه صار لك، وأنني ذبت في ظلالك؟
لكنك لم تدرك أنني أستفيق في اللحظة التي تعلن فيها انتصارك، أنبثق من حواف الهزيمة، كطيف من وهج لا يذوي.
كم ظننت أنك أطفأتني، وأنا الطعنة التي لا تموت، الجنون الذي يلد نفسه.
كلما احتضنني الفناء، أفلتُّ من قبضته، كأنني فجر يتوهج من لهيبه الأخير.
مثل “بروميثيوس” الذي سرق النار من الآلهة ليمنح البشر الحياة، أنا المتمرد الذي يتحدى الموت ليولد من رماد نفسه عاصفة جديدة.
لا شيء يطفئني، لا الغياب، ولا الامتداد، ولا الليل المتربص بي، الساكن في وهمه أنه يستطيع احتوائي.
فأنا النبض الذي ينسل من ضوء يحتضر، والموت الذي يخون حتميته ليولد مجدداً.
كلما ضاق بي الأفق، تمددت في الهوامش.
كلما ظنوا أنني انتهيت، وجدتني في البدء من جديد، أتشظى في الفراغ، ثم أتوحّد، أتناثر كذرات غبار، ثم أعود إعصاراً.
أهيم كوهج في مجرات الصمت، ثم أهبط كعاصفة على قلب الزمن.
أنا الاسم الذي لا يُمحى، والأثر الذي لا يتآكل، والصوت الذي يعود، ولو تخثّر في الصدى.
أنا اللحن العالق في أذن الأبد، والنقش الذي يأبى أن يتلاشى.
يفرّ مني النسيان مذعوراً، فأنا الحقيقة التي تتوارى بين السراب واليقين، والظل الذي يراوغ الضوء والظلمة معًا.
لا حد لي، لا قيد لي، لا انتهاء لي…
فأنا اللازوال .

بقلم فاطمة عبدالله

التمهيد:
يشكل نص (ظلّ الأبد) تجلياً سردياً شعرياً يستبطن بنية رؤيوية فلسفية تتموضع داخل نسيج ما بعد الحداثة متجاوزاً الأنساق التقليدية للقصيدة السردية إلى تخوم الخطاب الوجودي والمجاز العرفاني
النص لا يبنى على بنية حكائية تقليدية بل يتشظّى داخل الذات المتكلمة في فضاء تتنازع فيه ثنائيات الغياب والحضور
 الموت والانبعاث
 الزوال والخلود مما يجعل المقاربة النقدية له تقتضي أدوات تحليل ماورائية تتوسل من الفلسفة بوصلتها ومن التفكيك مرتكزها ومن العدمية والهرمينوطيقا مناخها
فالنص ضمن سياق ما بعد حداثي يمارس اشتغالاً مزدوجاً :
 من جهة هو نص سردي شعري مشبع بلغة رمزية عالية ومن جهة أخرى هو تجلٍّ تأملي لفعل الكينونة في حدّها الأقصى حيث لا تنفصل اللغة عن الكينونة ولا المعنى عن التقلب تتخذ المتكلمة لنفسها موقعاً بينياً هي لا تتكلم من المركز ولا من الهامش بل من برزخ بين الوجود واللاوجود كأنها ظل كوني لا يخضع لحتمية الزمن أو حدود الجسد وهكذا فإن هذا النص لا يُقرأ كتعبير
 شخصي بل كطقس سردي يتوسل الكثافة المجازية والفلسفية كي يدون صيرورة متحولة تتماهى مع حركة الضوء في لحظة احتضاره وتبني صوتاً يتحدّى الموت
لا عن بطولة بل عن وعي ميتافيزيقي عميق
مدخل رؤيوي:

في نص / ظلّ الأبد/
 تتشكّل اللغة ككينونة تتجاوز مرآويتها لتصبح فاعلة وجودياً محملة بتموجات الذات التي تنكتب بوصفها طيفاً هارباً من التعريف المتكلمة هنا ليست أنا فردية بل هي /أنا كونية/ صوت متعالٍ على الأزمنة
 يضرب في الوجود كما تضرب ومضة في سماء العدم
 إنّ النص لا يبنى على تعاقب سردي بل على تحول مجازي دائم تقوده استعارات تجريدية تنزع إلى ترميز وجودي أشبه بما وصفه (مارتن هايدغر) حين تحدث عن الكينونة بوصفها سؤالاً لا يجاب عنه بل يسكن
منذ الجملة الأولى: / أنا السراب الذي لا يشيخ/ يعلن النص موقعه الرمزي ويقوض التعيين المباشر للذات السراب ليس كائناً بل خداع بصري لكنه في النص يتحول إلى هوية قادرة على البقاء بوصفه صورة متحركة بين الحضور والغياب
هنا لا يكون السراب خديعة بصرية بل أسلوب وجود
كأن الذات تتخذ لها وجوداً في اللامكان واللامتعيّن وتبدأ بالتخلق من عدم
إن بنية النص تبنى على الشذرات لا بوصفها نثاراً بل كخلايا حيوية تتكاثر داخل بعضها وتشكل حينها مساراً حلزونياً للصوت الداخلي
 كل شذرة هي ومضة وجودية تنبثق ثم تختفي لتعود وتتجلى مجدداً بما يتقاطع مع فكرة ( العود الأبدي) (النيتشوي)
الزمن في النص لا يقاس بمروره بل بانفجارات المعنى داخله وكأن الذات تعبره لا لتعبر عنه بل لتعيد خلقه
أما في ظلال الكينونة: عن بنية التقلّب والتحوّل
تقول الناصة :
/ كلما حسبت أنني تلاشيْت وجدتني أتسلل من بين أصابع العدم/
هذه اللحظة الكاشفة تستبطن موقفاً (هايدغرياً) عميقاً من الكينونة حيث الوجود لا يدرك إلا في احتكاكه بالعدم إنها لا تعود فقط من الموت بل تتكون داخله
الفناء لا ينهيها بل يشكل مسرح ولادتها الدائمة كما في فيزياء الظواهر النجمية حيث تموت النجوم بانفجارات تُطلق حياة جديدة في المجرة
إن الذات الساردة من خلال قولها :
/ أنفاسي شررات وصمتي اشتعال مؤجل/
تحول سكونها الداخلي إلى طاقة فالصمت لا يعني غياب المعنى بل تجليه كثافة واستعداداً للإنفجار يتقاطع هذا مع فكر (دولوز) عن النص بوصفه مجالاً طاقياً يتحول ولا يستقر
إن التمرد في رأي الشاعرة له وصفه كوجوداً متجاوزاً
إذ تقول:
/ مثل بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة أنا المتمرد/
فالاقتباس الأسطوري هنا ليس زخرفاً بل هو استعارة كينونية
 بروميثيوس رمز المعرفة والتمرّد في آن واحد والشاعرة إذ تتماهى معه فهي تؤكد على فكر يتجاوز الخضوع للقدر لكنها لا تسرق النار للغير بل تسرقها لنفسها ولأجل أن تولد من رمادها هذا التمرد ليس فعلاً سياسياً بل وجودياً كما تَصوّره ( ألبير كامو ) فالتمرد هنا تأكيد على الحياة داخل العبث لا بالخضوع له بل بتوليد معنى من لا جدواه
 وتؤسس الناصة الهامش كمركز بديل
في قولها:
/ كلما ضاق بي الأفق تمددت في الهوامش/
إذ تسقط سلطة المركز وتؤسس للهامش كفضاء إبداعي
 هذه الفكرة جوهرية في فلسفات ما بعد البنيوية خاصة عند (دريدا) الذي رأى أن الهامش يحمل قوة زلزالية للمعنى
الناصة هنا لا تزحف إلى الهوامش خضوعاً بل تتسع فيها ككائن مائع لا تحدّه الفواصل إطلاقاً
وعن الصوت لديها فهو الصوت الميتافيزيقي المنبعث من الصدى
/ أنا الصوت الذي يعود ولو تخثّر في الصدى/
والصدى ليس تكراراً هنا
بل طبقة أكثر عمقاً من الوجود
 فالصوت لا ينطفئ بل يتكثف إنها الذات التي تنجو من التلاشي لا بالجهر بل بالأثر المتبقي
 كما في التصوف عند (النفري) أو (ابن عربي) حين يكون الكلام في الصمت والمعنى في الغياب
 حتى اللغة في هذا النص لا تحضر بوصفها إخباراً بل كشفاً
ونجد الذات اللازمنية تنكسر لدي الناصة
كتابة البقاء في قلب الفناء
في الذروة النهائية للنص تصل المتكلمة إلى لحظة التسمية العليا:
/ أنا اللازوال/
اللازوال لا يعني فقط البقاء بل تجاوز قوانين التغير الفيزيائي
 إنه جوهر لا يموت كما في نظرية الجوهر عند (أفلاطون) وكما في تصوف (السهروردي) حول النور الإلهي الذي لا يطفأ
اللازوال هو كسر للدائرة الزمنية وتجاوز لها إلى ما يشبه (الآن السرمدي) حيث لا ماض ولا مستقبل بل حضور مكثف لا ينطفئ
أما عن البنية الرمزية العميقة للنص فهو الظلّ
العنوان ذاته / ظلّ الأبد/ يشتمل على بنية مزدوجة :
– الظلّ : كائن حدّي ليس نوراً ولا عتمة بل منطقة تذبذب
– الأبد : مطلق الزمن اللاخطي
وبذلك يعاد تعريف الوجود بوصفه ظلاً ممتداً عبر الأبد
 لا يتكون ولا ينقضي
بل يظل في مرواغة دائمة كما قالت هنا :
/ أنا الحقيقة التي تتوارى بين السراب واليقين/
إنه صوت يتقاطع مع مقولات (الحيرة العرفانية) التي تجعل من الذات سرباً رمزياً دائم الانفلات
في الختام :
نرى أن/ ظلّ الأبد/ ليس مجرد نص سردي بل هو فعل وجودي لغوي يؤسس لذاته ككائن متجاوز للزمن متكئ على المفارقة والغياب حاملاً روحه في لغته ومتشظياً في تأويله إنه النص الذي لا يختزل لأن بنيته قائمة على اللامسمّى
بصوت ينهض من رماد المعنى تكتب أ. فاطمة نصها كما لو أنها تكتب مصيراً وجودياً يتحدى الحذف والنسيان
 إنّ هذا النص يعدّ وثيقة شعرية ماورائية عن خلود الذات في وجه فناء الواقع عن اللحن العالق في أذن الأبد
فهو خطاب شعري فلسفي يبنى على نفي الاستقرار وعلى تمجيد التحول تتحدث فيه أ. فاطمة لا بصفتها ذاتاً فردية بل كصوت كوني متجاوز للهوية الزمنية والمكانية
 هي الظلّ الذي لا يمسك والنبض الذي يتسرب من فجوات اللغة والغياب والموت الذي يعيد اختراع الحياة
هذا نص لا يقدّم نفسه ليُفهم بل ليُعاش
 لا بوصفه رسالة بل كطقس من طقوس الكينونة الرمزية حيث كل معنى يولد من نفيه وكل حضور يتشكل من حواف الفناء
وكما اختتمت الكاتبة بنبرة لا تقبل النكوص :
/ لا حدّ لي لا قيد لي لا انتهاء لي… فأنا اللازوال/
فكأنها بذلك تؤسس لنصّ لا يتلاشى بل يراوغ النسيان مثل نقش أبدي على جسد الغياب
مبدعة حقيقية وفنانة مجاز

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: