د. روز اليوسف شعبان: “الخرّوبة”: سيرة المكان والهوية في رواية رشيد النجّاب

د. روز اليوسف شعبان: “الخرّوبة”: سيرة المكان والهوية في رواية رشيد النجّاب

د. روز اليوسف شعبان: “الخرّوبة”: سيرة المكان والهوية في رواية رشيد النجّاب

د. روز اليوسف شعبان

صدرت الرواية عن: عمّان ناشرون وموزّعون، تصميم الغلاف م. مجود العناسوة، صورة الغلاف جدّ الكاتب بطل الرواية.

هذه الرواية هي سيرة غيريّة، يسرد فيها الكاتب رشيد النجّاب، سيرة جدّه رشيد في أواخر العهد العثماني، حين اقتيد للتجنيد إبّان الحرب العالميّة الأولى، رغم أنّه كان ولدًا وحيدًا لأسرته المكوّنة من مِصلحة، والده عبد الرحمن وأختيه حمدة وفاطمة.
عاشت الأسرة في بلدة جيبيا قضاء رام الله، واعتمدت في معيشتها على الفلاحة. وكانت حياتها بسيطة بدائيّة كما سائر السكّان في تلك الحقبة الزمنية.
يصف الكاتب  فترة مكوث جدّه رشيد في التجنيد القسريّ والتي امتدّت سنتين  قضاهما مع الجيش العثمانيّ في ضواحي دمشق، واصفا جميع الأماكن التي مرّ بها  في العربات والقطار من جيبيا بلدة رشيد  الواقعة بالقرب من رام الله، وحتّى دمشق،  وما تركته هذه الأماكن من أثر بالغ في نفسيّة رشيد، هذا الشابّ الذي تميّز بقوّته وصلابته، وصبره وشجاعته، وقدرته الهائلة على تحمّل الصعاب والعذاب الذي كان يتلقّاه  هو وباقي المجنّدين من القادة الأتراك، حيث عوملوا من قبل القادة الأتراك بصرامة وقسوة، فأذاقوهم أصنافًا من العذاب والإهانة والضرب، لأتفه الأسباب. بالرغم من ذلك فقد تجلّد رشيد وأظهر براعة ومهارة في الرمي وتسديد الأهداف؛ ممّا أهّله ذلك لتدريب مجموعة من المجنّدين على الرمي، هذا الأمر أبقاه بالقرب من دمشق، فلم يذهب مع غالبية الجنود للقتال.
أظهر رشيد حنكةً كبيرةً وفطنةً وأخلاقًا ساميةً وقدرةً كبيرةً على التواصل والتعرّف على الناس، فتعرّف على أحد المجنّدين وهو سالم نخلة الذي توثّقت العلاقات بينهما وامتدت إلى عائلتيها، كما أبدى رشيد رغبة كبيرة في التعرّف على الأماكن ومعرفة تاريخها، وقد تعلّم القراءة من جندي أزهريّ اسمه محمود، كان رشيد يدرّبه على الرماية.
حين كان رشيد في الجيش قرّر والده الهجرة من بلدتهم جيبيا إلى منطقة الساحل في يافا للعمل في قطف البرتقال نظرا لشحّ المياه في جيبيا. لكنّ عبد الرحمن توفيّ في الغربة، فعادت مصلحة وابنتاها حمدة وفاطمة إلى سقيفة العائلة في جيبيا، وبقيت تنتظر عودة ابنها تحت شجرة الخرّوب حتى عاد بعد سنتين من تجنيده بعد أن خسرت ألمانيا الحرب وهزمت هي وحليفاتها.
دلالات المكان في الرواية:

يُعدّ المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة.
يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ السرديّة، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله (الطويسي، 2004، ص. 167.).
إذًا، لا قيمة للمكان ما لم يحفل بالشخصيّات التي تمنحه المعنى وتُسهم في إغنائه بالدلالات، من خلال العلاقات المختلفة التي قد تدخل فيها هذه الشخصيّات مع المكان، كعلاقات التنافر أو الحياد أو الانتماء (قاسم، 1984، ص. 76.). فالمكان “عنصر حيّ فاعل في هذه الأحداث، وفي هذه الشخصيّات، إنّه حدث وجزء من الشخصيّة، وهو الذي يؤسّس الحكي في معظم الأحيان لأنّه يجعل القصّة المتخيّلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة” (حميداني، 2000، ص. 53، 65). لذا “فالمكان يكتسب أهمّيّة من خلال معايشة البطل للأمكنة والأحياء التي تمتُّ له بالصلة سواء من قريب أو من بعيد، فيكون المكان هو اللوحة النفسيّة التي عاشها وعايشها البطل” (محبك، د. ت.، ص. 55.).
في رواية الخرّوبة، لا يبدو المكان مجرد خلفية للأحداث، بل يصبح كائنًا حيًّا، يرافق البطل رشيد في رحلة الألم والانتماء، من جيبيا إلى دمشق، ومن الحقل إلى ساحات الحرب.
ولعلّ إهداء الكاتب في روايته يشير إلى تأثير هذه الأماكن على نفسيّته فجاء في إهدائه:” إلى أرواح عانقت الطبيعة الجميلة في جيبيا، جدّتي جدّي أمّي وأبي.
بدت لنا الأمكنة زاخرة بالجمال وعبق التاريخ والذكريات التي تداعب خيال رشيد بين الفينة والأخرى. فهي أماكن تحوي الكثير من الشواهد التي تدّل على جمال وعظمة وحضارة هذه البلاد.
لا يكتفي المكان في الخرّوبة بأن يكون حاضنًا للأحداث، بل يتجاوز ذلك ليُصبح حاضنًا للذاكرة والحلم، حافزًا للانفعال الوجداني، ومجلى لجمال الطبيعة الفلسطينيّة بتضاريسها، وتاريخها، وروحها المتجدّدة.
وقد لفت غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان إلى أنّ للمكان قيمةً وجدانيةً تُستمدّ من التجربة الحسيّة والمعيشة اليوميّة، حيث يقول:
. “إنّ البيت ليس مجرّد مكان للسكن، بل هو كونٌ داخلي، ومسرحٌ للخيال والذكريات”
وهذا ما نجده متجليًا في تصوير الكاتب لرشيد وهو يطلّ من نافذة القطار، يرقب مشاهد بتير وطولكرم وسيلة الظهر، فتختلط أمامه صورة الطبيعة الحاضرة بصدى الذكريات والحنين إلى بلدة جيبيا

كذلك فإن تصوير شجرة الخرّوب كمعبدٍ يوميّ للأم المنتظرة، يجعل من المكان عنصرًا شعريًا ذا بعد جمالي، يرتقي بالفضاء السرديّ من المستوى الواقعيّ إلى مستوى رمزيّ وجدانيّ، فيتحوّل المكان إلى ذاتٍ تتنفّس، وتتألّم، وتنتظر.
وبذلك تتلاقى الرواية مع ما ذهب إليه غالب هلسا حين رأى أنّ جماليات المكان لا تنبع من وصفه المجرد، بل من العلاقة الحميميّة التي تربط الشخصيّة به، وتجعله مرآة داخليّة لوجدانها”. (هلسا، الفضاء الروائي، ص.45).)
بدأ ترحيل المجنّدين عن طريق جفتا عين سينيا باتجاه طريق نابلس القدس، وقد لمح المجنّدون عن بعد بعض معالم القدس، قبّة الصخرة وبعض الكنائس، ثم صعد المجنّدون الى عربات القطار ليتوزّعوا في غزّة يافا البلقان ودمشق وكان رشيد ضمن المجموعة التي توجّهت إلى دمشق.
رأى رشيد من نافذة القطار بلدة بتير المميّزة الغارقة في خضرة رائعة الجمال شكّلتها أشجار مثمرة وأخرى باسقة حارسة للطبيعة (ص 42). ثم وصل القطار بلدة طول كرم ثم جنين مرورا بسيلة الظهر ومرج بن عامر ثم العفولة وبيسان وفي غمرة هذه الرحلة، يتذكّر بلدته بيتيا فيرى نفسه أمام السقيفة يتأمّل القادم من الأيّام ويرتب مع والديه ما يقتضيه الموسم من أعمال: موسم العنب والتين وتبعاتهما…
يذكر الكاتب أسماء الأماكن التي مرّ منها القطار: جسر المجامع، وادي اليرموك، سمخ التي مسحها اليهود وأقاموا مستوطنة بديلة باسم “تسيماح”(ص 64)، ثمّ الحمّة، وتلّ الشهاب درعا، سهل البقاع بجوار بعلبك (ص 69).
فما دلالات كلّ هذه الأمكنة؟ ولماذا أتى الكاتب على ذكرها بالتفصيل؟
ربّما أراد الكاتب أن يبيّن لنا، أنّ تتبّع هذه الأماكن ليس فقط لتوثيق الجغرافيا، بل هو تأكيد على وحدة الأرض والهويّة، في وجه التمزّق السياسي الحديث. فهي منطقة جغرافيّة واحدة، تتشابه في التضاريس والحضارات والعادات، ومرّت في ذات الظروف من احتلال العديد من الشعوب لها، فذهب المحتلّون وبقيت هذه الأماكن بآثارها وحضارتها شاهدة على من مرّوا بها. ولعلّ الاقتباس التالي من الرواية ما يشير إلى ذلك:” وصل المجنّدون إلى بعلبك، لم تكن الخضرة بزهوّ حضورها وحدها مبعث لهذه الدهشة فليس المكان إلّا امتدادًا طبيعيًّا لتضاريس فلسطين، إنّما تمحور الانتباه حول هياكل أبنية تعاظمت في شموخها واتصالها وامتدادها ممّا أدهشهم ذلك”(ص 76).
وقد ذكر الكاتب بعض هذه الأمكنة مع ذكر أصلها وتاريخها، فعن مدينة بعلبك كتب ما يلي:” بعلبك” مدينة الشمس” وأحد مساكن الإله “بعل”(ص 76). كما أتى على ذكر سوق الحميديّة في دمشق، ليبرز أهميّته التاريخيّة والاقتصاديّة:” اسم سوق الحميديّة منسوب للسلطان العثماني حميد الأوّل، الذي بني السوق في عهده في نهاية سبعينيّات القرن التاسع عشر في موقع قريب من قلعة دمشق، ويرتبط سوق الحميديّة بأسواق عديدة وفقًا للحِِرف التي تضمّها هذه الأسواق، أو المنتجات التي تتوافر تحت سقوفها، فهذا سوق للصاغة وآخر للحبوب، وسوق لتجهيز مستلزمات الأعراس وآخر لمستلزمات الخيول وغيرها…(ص 70).
وعن مدينة بيسان كتب:” بيسان أيضًا مرتبطة بالفراعنة فهي عاصمة حكمهم في فلسطين وفيها شواهد على حضارتهم (ص 55). وعن بلدة سمخ كتب:” سمخ القرية الصغيرة الوادعة التي تحرس الشاطئ الجنوبيّ الشرقيّ لبحيرة طبرية، البحيرة التي شهدت نشأة القائد الفلسطينيّ ظاهر العمر الزيدانيّ، الذي أقام أوّل كيان فلسطينيّ في القرن الثالث عشر فحكم عكّا وأنشأ مدينة حيفا (ص 64).
ولعلّ أهمّ الأمكنة التي لها دلالات وطنيّة مهمّة هي شجرة الخرّوب، حيث كانت أم رشيد تستظلّ بظلّها، فجعلت من الخرّوبة مقرّها ومقامها في ساعات العصر، بل كانت صومعتها، معبدها وموئلها اليوميّ الذي تلجأ إليه في العصاري، كأنّها تعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة، وتجمّعت حولها النساء والجارات والقريبات، كانت مصلحة حكّاءة ماهرة حكت لهنّ عن الهجرة ومعاناتهم، والمحطّات التي مرّوا بها ومشاعر القلق التي كانت تعتريهم”(ص 105).
هذه الخروبّة التي كانت مكانًا آمنًا لمِصلحة وغيرها من النساء، كانت أيضا مكانًا لاسترجاع الذكريات، منها ذكريات جميلة ومنها ذكريات حزينة، لكنّها مع ذلك كانت المكان الذي كانت مصلحة تنتظر فيه وحيدها رشيد، وهو ذات المكان الذي اختفت فيه شجرة الخرّوب بعد ما يقرب من قرن:” يمّم عبد الرحمن شرقا باتجاه المرج حيث تبدأ الطريق بالانحدار نحو خرّوبة النحلة، ثمّ غابت الخرّوبة بعد ما يقرب من قرن واختلفت الآراء فمن قائل أنّ معتديا أثيما يعمل في التحطيب اغتالها، إلى قائل أنّها جفّت  بفعل مرض، وذهب آخرون إلى تحميل المسؤوليّة لجيش الاحتلال الذي اغتالها برشقة من رصاص نظرًا إلى شهرته اعلى الصعيد الشعبيّ( ص 57).
وهكذا، تتحوّل الخرّوبة من كائن نباتيّ إلى معلمٍ ذاكراتيّ، يحمل في جذوره قصص الانتظار، ويُغتال كما تُغتال معالم الذاكرة الفلسطينية.
إنّ هذه المعلومات التي ساقها الكاتب عن الأمكنة المذكورة أعلاه، لم تكن محض صدفة، وإنّما أضاء بذلك على أصل بعض هذه الأمكنة وتاريخها، موضّحًا الأصول التاريخيّة لهذه البلاد، وحقّ شعبها الفلسطينيّ في العيش على أرضه، حيث الشواهد التاريخيّة والحضاريّة والثقافيّة شاهدة على جذوره ورسوخه وثباته في هذه الأرض.
وفي الختام حبّذا لو حدّد الكاتب مواقع بعض البلدات التي ذكرت في الرواية، مثل: بيتيا، بتير، جسر المجامع، وادي اليرموك، سيلة الظهر وغيرها… أو ربّما لو أرفق خريطة توضيحيّة للمسار الجغرافيّ لرشيد لكان ذلك دعمًا بصريًا يساعد القارئ في معرفة مواقع الأماكن وجغرافيّتها.
وأخيرًا، هل يمكن اعتبار هذه السيرة الغيريّة مرجعًا تاريخيّا توثيقيّا لحياة الفلسطينيّ في أواخر الحكم العثمانيّ وتحديدًا في فترة الحرب العالميّة الأولى؟
 لا تغدو هذه الرواية برأيي مجرّد سرد لسيرة غيريّة، بل هي وثيقة سرديّة تحتفظ بذاكرة المكان، وتعيد رسم ملامح الحياة الفلسطينية في أواخر العهد العثماني، وتحديدًا خلال الحرب العالميّة الأولى.
المراجع:
باشلار، غاستون (1994). جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، بيروت: دار الكلمة.
حميداني، حميد (1991)، بنية النصّ السرديّ من منظور النقد الأدبيّ، بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع.
الطويسي، محمود (2004)، “الفضاء الروائيّ عند غالب هلسا رواية (سلطانة)”، وعي الكتابة والحياة: قراءات في أعمال غالب هلسا، مجموعة كتّاب، عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، ص. 166-195.
قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.
محبك، أحمد زياد (د. ت.)، متعة الرواية: دراسة نقديّة منوّعة، بيروت: دار المعرفة.
هلسا، غالب (2004). الفضاء الروائي عند غالب هلسا: رواية سلطانة، ضمن كتاب: وعي الكتابة والحياة، عمّان: دار أزمنة.

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: