
د. كايد الركيبات: النص القصصي طمأنينة كاذبة
د. كايد الركيبات
كنانة عيسى
استيقظت…. مرتبكًا، كانت متكورة بجانبي، نائمةً بهدوءٍ غريب، تلفّها طمأنينة جميلة، رتابة أنفاسها أيقظتني.
وحين فتحتُ عينيّ.. بتثاقلٍ. أدركت مصيبتي
… إنّها هي
قفزتُ بتوترٍ ورعب من السرير الذي جمعنا معًا غير مصدق.
يالله… ماذا سأفعل الآن… ؟!
ركضت… خارجًا من الغرفة في ارتباكٍ، حلقي جافٌ، وجسدي يرتعشُ، وقدماي مهزوزتان لاتقويان على حملي
ركضتُ مستغيثًا… أرتجفُ في هلعٍ، أكادُ لا أتنفس وأنا أتعرق كمحمومٍ.
أبحث عن زوجتي… لا بدّ أن أخبرها .. ولكنّني تريثت
ماذا سأقول؟
خوفي يفضحُني، ارتباكي يحرقُ أعصابي، للمرَّة الأولى أنا مجبرٌ على الاعتراف، ترددتُ أن أقرعَ باب غرفتها حيث تنام بعيداً عني، لن ألومها… فقد أسأتُ إليها كثيراً وظلمتُها أكثرَ مما يمكن لصبرِ امرأة أن يحتويه
خيانةٌ وكذبٌ وتطاولٌ… وهجرُ
نظرتُ حولي، ظلمةُ المكان تستبيحُ سكينةً لا أجدها، وحدها الأنفاسُ المتقطّعة تتجاذبُ خفقان قلبي، سأصاب بأزمة… قلبية ربما؟ ربّما هذا أفضل للجميع.
توجَّهت للمطبخ الذي تسلَّلت منه برودةُ ناعمة، لعلي إن دخنت سيجارة وشربت كأسًا من الماءِ أفقت مما أنا فيه.
وما أن دخلتُ، حتى تسلَّلت إليَّ رائحة النعناع الساخن. فوجئت بها جالسةً كصنمٍ، شعرها ليس على ما يرام ترتدي ثوبها المنزلي البنفسجي السميك الذي لا تحبهُ، وأمامها كوبٌ كبير من الشاي الذي قد صنع للتو، رائحته الدافئة وبخاره يوحيان بطمأنينةٍ كاذبة، لعلها ساعدتني على درءِ ما بي.
كانت عيناها متورمتان ملتهبتان وبقايا كحلِ الليلة السابقة يحيطهما بشراسةٍ، جفّت دمعة بائسة في طريقها السفلي فجأةً في منتصف وجنتها الشاحبة، يبدو أنها بكت لوقت طويلٍ.
اعتصر الألم قلبي، قلت لنفسي “تبًا لهذه الورطة” سحبتُ كرسيًا مقابلًا لها وحاولت أن ألج ارتباكي وجبني بإطالةِ النظر لعينيها المطفأتين.
كيف أقولُ لها أنني استيقظت لأجدَ عشيقتي التي تركتني منذ ثلاثةِ أشهرٍ تنامُ بجانبي؟ كأنّها هبطت من السماء.ِكلعنة.
فاجأتني بقولها: أتعلم؟… أعتقد أنني أدينُ لك بمعرفة شيءٍ كنتُ قد أخفيته عنك.َ
لم أجرؤ على التّفوه بحرفٍ واحدٍ، كنت خائفًا فهززت رأسي في استغباءٍ وعدم فهم، فاستطردَت:
-هل تذكرُ ذلك الصندوق التي اشتريناه البارحةَ من ذلك المتسولِ، والذي يحققُ الأمنياتِ؟ كما ادّعى؟
أومأتُ برأسي وأنا أخفي ارتجافَ شفتيَّ القارستين
أكملت وهي تشرب شايها بهدوء مستفزٍ فقالت:
-لقد تمنيتُ أمنيةً قبل النومِ وأظنّها قد تحققت
قلتُ لها وأنا أكاد أتلاشى ممازحًا بصوتٍ يتحشرجُ:
-مالذي تمنيته يا عزيزتي؟ أتمنّى أن يكون مبلغًا كبيرًا من المال!
همست بصوت مريب:
-تمنيت أن نجد الجرأة أنا وأنت على مواجهة أفظع ما قمنا به في حياتنا بشجاعةٍ؟ حتّى نعيشَ بسلامٍ مجددًا
قالت الجملة الأخيرة وهي ترتجف…
-ثمّ…؟
تساءلتُ بصوتٍ خفيضٍ لا يشبهُ أصواتَ الرجال عادةً
قالت وهي تبدأ نشيجًا لا أحبه
لقد استيقظت لأجده نائمًا بجانبي….
قراءة تحليلية لقصة “طمأنينة كاذبة”
في قصة طمأنينة كاذبة للأديبة كنانة عيسى، تدور الأحداث حول حالة من الارتباك عاشها رجل استفاق من نومه متخيلاً عشيقته التي هجرته قبل شهر تنام بجانبه على السرير، كانت ردة فعله الهروب من الغرفة في حالة نفسية بائسة باحثاً عن النجاة التي ما كان يراها إلا في مصارحة زوجته بما تخيله. لكن سرعان ما تردد، فكيف له أن يحدثها بمثل هذا الموضوع، سار قلقاً متخبطاً حتى وصل إلى المطبخ، حيث صدمته المفاجأة الثانية، عند رؤيته زوجته جالسة بهدوء مريب، تحتسي الشاي في مشهد يوحي بطمأنينة سطحية تخفي صراعاً داخلياً هائلاً.
جاء في القصة: “فوجئت بها جالسةً كصنمٍ، شعرها ليس على ما يرام ترتدي ثوبها المنزلي البنفسجي السميك الذي لا تحبهُ”. قد يكون ارتداء الزوجة لثوب لا تحبه سبباً جعله يشعر بأنها في حالة نفسية مضطربة، وبين نظرات مرتجفة وصمت مشحون، انكشف ما هو أعمق؛ إذ اعترف الزوجة بأنها استخدمت صندوق الأمنيات الذي اشترياه بالأمس، وكانت أمنيتها أن يمتلك كل منهما الجرأة لمواجهة أسوأ ما فعله، ويصارح به الآخر، وبكل مرارة، كشفت له أنها، هي الأخرى، قد استيقظت من نومها متخيلة أن عشيقها السابق نائماً بجانبها.
لم يقدم النص القصصي سبباً للقلق والذعر عند كلا الزوجين من لحظة تخيل أن من كان نائماً بجانبه على السرير حين استيقاظه هو أقرب الناس إلى نفسه، ومن كانت تربطه به علاقة عاطفة قوية، تطغى على العلاقات العاطفية الباردة التي تجمع بينهما في ظل الرابطة الزوجية الهشة، خارج النص قد نتصور أن مثل هذه الأحلام والتخيلات مصدر راحة نفسية وشعور جميل، لأنها تذكر بشيء مفقود سيما أن حالة الزوجين قُدّمت على أنها تمر في حالة من “خيانةٌ وكذبٌ وتطاولٌ… وهجرُ” لماذا انقلبت الآية هنا؟ لا تفسير في سردية القصة أو تلميحاتها الرمزية، سوى خلق وظيفة لصندوق الأمنيات.
لهذا نُسِج الحدث غير المنطقي (استيقاظ كل من الزوجين بجانب عشيقه/عشيقته) ضمن سياق مقبول سردياً بفضل هذا العنصر العجائبي، فوجود الصندوق هو ما أحدث الشرخ في الواقع، إذ أدى إلى تحقق أمنية كلا الزوجين بمواجهة أسوأ ما فعله كل منهما، كانت الشخصيتان من دونه في دائرة الكبت والمراوغة، بفضل الصندوق، انكسرت الحواجز النفسية أمام الاعتراف، وتحول النص من مجرّد توتر داخلي إلى مواجهة مباشرة وصادمة بين الطرفين.
رمز عنوان القصة “طمأنينة كاذبة” للسيرة الذاتية لكلا الزوجين مفادها أن كلاً منهما يعيش في ظروف ظاهرها الطمأنينة، وواقعها التوتر والارتباك والقلق، ليوحي لنا النص أن مصدر هذا التضاد ناتج عن مشاعر مكبوتة عند الزوجين تربطهما ربطاً وثيقاً في ماضٍ أو سلوك يتعارض مع استقرار وديمومة الحياة الزوجية، التي يُفترض أنها مؤسسة على التواد والتراحم.
فنياً: استخدمت القاصة التكثيف الانفعالي والتصوير النفسي بلغة حسية مشحونة بالشعور، “ركضتُ مستغيثًا… أرتجفُ في هلعٍ، أكادُ لا أتنفس وأنا أتعرق كمحمومٍ”، وأظهرت قدرتها على نقل الهلع والارتباك باستخدام أفعال قوية وصور حسية دقيقة (أرتجف، لا أتنفس، أتعـرق) مما جعل القارئ يتفاعل مع الحالة الشعورية للشخصية، كما أنها برعت في نقل المشهد الداخلي بالصمت والتفاصيل البصرية الدقيقة مثل: “جلست كصنم… شعرها ليس على ما يرام… كوب شاي ساخن… رائحة النعناع…”
اعتمد بناء القصة على حدث متصاعد بدأ من المفاجأة الحسية وانتقل نحو المواجهة النفسية، حتى بلغ ذروته في لحظة الاعتراف المتبادل. الشخصيات مرسومة بمهارة، الرجل غارق في ارتباكه، والزوجة تتقن الصمت الذي يُدين، ويبوح أكثر مما يُخفي. أما الحبكة، فجاءت محكمة ومتدرجة بانسيابية، تنقلت بين مستويات الشعور بالذنب والتوتر الداخلي والبوح الموجع، ضمن إطار مكاني ضيّق (غرفة النوم والمطبخ)، وزماني يوحي بسكون الليل وقلق الفجر. خدم الغموض الزمني والمكاني الطابع الرمزي للقصة، حيث تداخل الواقع مع الخيال، واللاشعور لبس ثوب الحقيقة.
القصة ناضجة في بنائها ومضمونها، تثير تساؤلاً مهماً: هل يمكن الخلاص من خطايانا دون أن نواجهها؟ النص لا يمنح إجابات حاسمة، بل يترك قارئه في مواجهة ذاته، أمام مخيلة كثيفة بالبقايا العاطفية، والخيبات، والألم.
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: