مصطفى عبد الفتاح: عُمق النَّكبة في “جورة الذَّهب” للدكتور حاتم خوري

مصطفى عبد الفتاح: عُمق النَّكبة في “جورة الذَّهب” للدكتور حاتم خوري

مصطفى عبد الفتاح: عُمق النَّكبة في “جورة الذَّهب” للدكتور حاتم خوري

 

مصطفى عبد الفتاح

لم أفهم سرّ شغف زوجتي بالحديث عن معلّمها الدكتور حاتم خوري كلَّما سنحت لها الفرصة، أو كلَّما تذكَّرت أيَّام دراستها، ومتعة القصص والحكايات الَّتي كان يرويها لهم، إلّا عندما قرأت كتابه الرائع “جورة الذهب”، قرأته بتمعّن، تذوَّقت فيه جماليات النَّص، فهمت العمق الأدبي والسَّرد السَّلس والأسلوب المشوِّق، الَّذي اتَّبعه المربي حاتم خوري في نقل أفكاره ومشاعره إلى تلاميذه، الَّذين حفظوا له رسالته وأحبّوا طريقته وأسلوبه ولم ينسوا فضله عليهم أبد الدَّهر. تقول تلميذته، المربية فتحيَّة أمين حلّومة عن أستاذها وكتابه “جورة الذهب”  في مقال كتبته بتاريخ 18.3.21 ونُشر في مواقع التّواصل الاجتماعي، تصف فيه مشاعرها تجاه معلّمها وأسلوبه في طرح مواضيعه المشوِّقة : “قرأت بضع جُملٍ مُتفرِّقة من الكتاب أعادتني إلى أيام الزَّمن الجميل، أيام الدِّراسة، وحكايات أستاذي د. حاتم خوري المُشوِّقة الَّتي لا تنتهي، بأسلوب سردها، ودِقَّة تفاصيلها، ومُفاجآت أحداثها، قصص وطرائف كثيرة لا تُنسى عشنا أحداثها بخيال الشَّباب”.
عادت زوجتي لتطلب مني أن أقرأ الكتاب ثانيةً، في طبعته الثانية المزيَّدة والمنقَّحة، بعد أن أهداها لنا د. حاتم خوري مشكورًا، وأن أكتب انطباعاتي ورأيي فيما أقرأ، وها أنا أُلبّي رغبتها بكلّ محبَّة وتقدير لهذا الوفاء الَّذي تُكنَّه طالبة علم لأستاذها المعلم، وهو يستحق هذا، وحبًا وتقديرًا للمربي الَّذي استطاع أن يغرس في نفوس طلّابه هذه الرّوح الوطنيّة والإنسانيّة الوثَّابة، الَّتي لا تعرف غير الوفاء والودّ لمن يستحقّه.
لم أستغرب موقف د. حاتم خوري وطريقة تعريفه بنفسه في جامعة لندن، أمام من يرفض مجرَّد وجود الشّعب الفلسطينيّ، بل هذا ما توقّعته منه، ولم استغرب طريقة الرَّد العميق الذي يستحق التَّقدير والثّناء، فهو يدل على شخصيّة وطنيّة ثابتة الجذور، عميقة التّفكير، وتعي عمق قضيّتها وجوهر وجودها فبوركتَ وبوركت كلماتُك. يقول: ” أنا لم اولد في الفضاء الخارجي، ولا في عرض المحيط، ولا في فراغ. انا وُلدتُ كما وُلد والدي ووالدتي وأجدادي وأجداد أجدادي، على بقعة أرض سمّيت جغرافيًا وتاريخيًا وسياسيًا أيضًا، باسم فلسطين. كما أنَّ أوراقي الثبوتيّة الرّسميّة الأولى، تحمل عنوان “حكومة فلسطين”، وبالتّالي فأنا فلسطينيّ شاء من شاء وأبى من أبى. ص 164. وهذا التَّعريف بالكاتب يكفي.
في مجموعته “جورة الذهب” لم يكتب لنا موضوعًا فلسفيّا، سنجتهد في فهمه، لم يرهقنا بالكلمات الرَّنانة والغوص في معاجم اللّغة لفهم الما وراء، فقد اتَّبع أسلوب الحَدث الَّذي يُذكّر بقصة، والموقف الذي يُعالج بحكاية، فينسجم القارئ ويندمج بالحكايات القصيرة المعبّرة عن خبايا الموقف، والموضِّحة أبعاده. هذه الطَّريقة بالسَّرد تذكرني بقصص وحكايات “ألف ليلة وليلة”، حكايات مشوِّقة لا تنتهي، بالسَّرد وإبهار القارئ بالتَّفاصيل والمغزى من كل قصة، إلَّا لتبدأ بحكاية جديدة أجمل. إذا أخذنا عمق الحكايات، فسنجد أنَّ وراءَها إنسان عميق الثقافة، يجعل من كلّ طرفة عبرة ودرسًا يصعب على المتلقي نسيانه.
القصَّة الأولى “جورة الذَّهب” والَّتي حملت اسم المجموعة كاملة وبجدارة، يجسّد الكاتب فيها قضيَّة شعب منكوب، يرسم عمق القضيّة، وعِظم النّكبة وعمق الجرح النّازف منذ ثمانين حولًا، يعيشها الفلسطينيّ بكلّ جوارحه وكيانه، بحزن وألم يومي متجدّد، ينحت لوحة أدبيّة فنيّة، تتشعّب خيوطها عميقًا في العقل والقلب، بأسلوب بسيط سهل سلس، يجترحها من قلب الواقع ومن لبّ المعاناة الّتي يعيشها الفلسطينيّ بكلّ دقائقها منذ ثمانين حولًا وما زال يعاني حتى اليوم تفاصيلها الدَّقيقة، إنَّها النَّكبة الفلسطينيّة بكل تجلّياتها وأبعادها، هي قصّة آلاف الفلسطينيين الّذين يعيشون يوميًا عذاباتها .
هذا الصّراع الوجودي الذي يعيشه الفلسطينيّ بكلّ دقائقه، يترجمه د. حاتم خوري في صراع “خضر” المرير مع نفسه، مع محيطه الوطني، ومع عدوه المتربص له للسّيطرة التَّامة على مقدَّرات وجوده، بيته وبلده ووطنه وحتى فكره، فأيّ الطُّرق على الفلسطيني أن يسلك؟ وأيّ الخيارات المتاحة أمامه؟، كيف يتخلَّص من هذا الشّيطان الجاثم على صدره، في صراع مرير على لقمة العيش؟ فالحرب اقتصادية وتجويعيّة إن صحّ التّعبير، وصراع بقائه على أرض الوطن، والعودة من اللجوء إلى الوطن ليعاني لجوءً أمرّ داخل الوطن.
البيت و”جورة الذهب” والوطن على مرمى حجر، يعيش خضر في الوطن كما يعيش الوطن في خضر، فلا ينفصلا ابدًا، وصراع الاغراء الاقتصادي على قبول الصّفقات الَّتي قد تؤدي إلى قبول الواقع والرّضوخ لطلبات المُستعمر لا تتوقّف. فها هو المُستعمر يدسّ السُّم في الدَّسم ويقدّمه لخضر علَّه يقع في المصيدة، هو صراع على قبول الاغراء في بيت ليس مُلكك، مقابل التنازل عن بيت هو مُلك لك، من أجل الحفاظ على بقاء الاثنين، أو جعل الاثنين في مهب الريح، فأي معادلة هذه التي تقف على أعتاب الفلسطيني مشرّعة أبوابها نحو الهاوية السّحيقة؟، يقول خالد أبو عزيز، صاحب البيت المهجور، لخضر، كي يحافظ على بقائه وصورة وجوده في الوطن: ” لقد قلتُ لك يا خضر انًّ الجيش الإسرائيلي يهدم البيوت المهجورة، كي يقطع الطَّريق على أصحابها الَّذين يملكونها، وينسف جسور أملهم بالعودة إلى وطنهم. أمَّا إذا تمَّ تبادل دارك بداري، فإنَّ داري لن تُهدم لأنَّها ستصبح ملكًا لك، ودارك أيضًا لن تُهدم لأنَّها ستكون بملك الجيش” ص 58. كأنَّ على خضر أن يقرّر نيابة عن الشّعب الفلسطيني كله، فيقول، في صراعه الدّاخلي، ملخّصًا موقفه المبدئي من قضيّة التَّعامل مع الاحتلال: ” صحيح أنا لست جائعًا ولا بردان، ولكنَّني قلِق، خائف، نعم، أنا خائف جدًا من نتائج القرار الَّذي عليّ أن أتَّخذه بشأن استبدال داري بدار أبو عزيز”. ص 59
يُجْمِل الكاتب الموقف النّهائي، والمعاناة التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني، ببضعة أسطر حين ربطت أم نجيب مصيرها بمصير خضر وموقفه من تبديل بيته حيث يقول: “لقد وقع حديث أم نجيب على خضر وقوع الصَّاعقة، فجعله يتساءل بينه وبين نفسه: “أهي فعلًا قضية محدودة الأبعاد أم إنَّها ستصبح قطعًا حلقة أولى في سلسلة من صفقات التَّبادل التي تنطوي عمليًا على بيع مقنَّع لأملاك الفلسطينيين الاصلية؟” ص 64. وهنا بلا شك يذهب الكاتب إلى عمق القضيّة، وعمق النّكبة، فالقضية ليست شخصيّة وليست حلاً لقضيّة خضر، إنَّها قضيّة شعب يأبى الظّلم ويرفض النّسيان ويحاول العودة إلى وطنه دون قيود.
يؤكّد الدكتور حاتم خوري في قصَّته أنَّ الفلسطيني يُصارع الاحتلال منفردًا أو مع الجميع، وفي كلا الحالتين موقفه ثابت، لا لبس فيه، يحاول بكل قوَّة أن يحافظ على شُعلة نضاله متوقّدة في كل الظّروف دون الخنوع لأيّ إملاءات حتى لو كان الوضع يتطلَّب التَّنازل عن بعض مقوّمات الحياة، حتى أنَّ الأمر بات يُذهل المستعمر، حين استطاع خضر أن يقاوم الحصار الاقتصادي ويصمد أمام الاغراءآت ويقف شامخًا مرفوع الرّأس، يرفض كلّ الإملاءات والإغراءات، فها هو يلخّص الموقف بلسان عدوّه: ” غريب أمرك يا خضر، لقد رفضت سابقًا قبول تعويض ماليّ، وها أنت الآن ترفض استبدال مُلك بمُلك! ألا تريد يا خضر أن تتجذَّر في هذه البلاد؟!!. أجابه خضر بجرأة عين تتحدّى مخرزًا: ” بلى يا سيّدي. أريد أن أتجذَّر في وطني هذا. ولكن جذوري باقية هناك.. هناك في جورة الذهب”. ص 65. هكذا كانت وهكذا ستبقى جورة الذهب بالنّسبة لخضر هي فلسطين، وفلسطين هي جورة الذهب، والجذور باقية هناك.
ويتنقل أديبنا في بستان حكاياته وقصصه المشوّقة “جورة الذهب” من قصّة إلى حكاية وعبرة، إلى موقف ورأي، يجذب فيها القارئ إليه كما تنجذب النَّحلة إلى الزَّهرة، ولنأخذ بعض النَّماذج ألَّتي أبدع فيها كاتبنا سرد حكاياته، ففي قصَّة “متفائلًا مات أبي” نرى قمَّة الوفاء، ومعنى الصّداقة والعطاء والطيبة بين الأصدقاء، بين أبناء الشّعب الواحد، الذي يرفض فكرة التَّهجير ويرفض مخرجات النَّكبة والتهجير ويبقى الاب وفيًا لصديقه حتى الرّمق الأخير “تحسّسها وأمعن النَّظر فيها، حتى قال بلهفة: “إنَّها مسبحة أبو صبري بشكلها ولونها وشرّابتها” .. احتضنها بين كفّيه احتضان من لا يريد أن تفلت منه.. بعثت في قلبه املًا وفي نفسه تفاؤلا.” ص 75.
وفي قصَّة حليمة وبناتها، “ست الحبايب”، يروي لنا رحلة عذاب الفلسطيني الَّتي لا تتوقف، قصّة مؤلّفة من آلاف القصص المتشابهة التي فيها ضياع الحياة الاجتماعيّة والأسريَّة، لكن رغم الألم ورغم المعاناة ورغم الظلم ينتصب الفلسطيني شامخًا كالعنقاء من تحت الرَّماد، ليعلن عن وجوده وبقائه رغم كل الجراح، فها هي حليمة تلتقي ببناتها التوائم الثَّلاث رغم رحلة العذاب، حتى لو كان اللقاء في كندا ” وقفت البنات الثلاث مذهولات شاخصات ومسمَّرات في وقوفهن… وما إن وطأت قدم حليمة أرض المنصّة، فاتحة ذراعيها لاحتضانهنّ، حتى انهلن عليها ضمًا وعناقًا، هاتفات “ماما…. ماما… تاركات العنان لدموعهن المنهمرة..”. ص 111.قصة تكاد ان تكون من عالم الخيال.
سأختتم مقالتي بقصّة الرّجل الَّذي يعتمر الحطَّة والعقال، وهو يائس من أن يتوقّف له أحدهم ليقلَّه بسيارته إلى قريته يوم السّبت، إلى أن توقّف له كاتبنا، فأعرب له عمَّا يجيش في خاطره، أنَّ أحدًا لن يقف له لأنَّه يعتمر الحطّة والعِقال” مين بدو يوقف لهاي الحطة ولهذا العقال؟!! ص ،127 فكان الرَّد يؤكد له قيمة الرمز وعمق الانتماء ومعنى الحفاظ على موروثنا الثَّقافي والتَّاريخي بكلمات بسيطة عميقة معبّرة، “وحياة شرفي وشرفك، ما خلَّاني أوقِّف إلَّا الحطّة والعقال” ص 127. فكان هذا هو المعنى الحقيقي في الوفاء لتراثنا وحفظ تاريخنا وعاداتنا وتقاليدنا.
لا يمكنني الاسترسال أكثر فالحديث يطول وقصص أديبنا لا تنتهي وجميعها بحاجة إلى وقفات تأمّل وتفكير، سأترك للقارئ هذه المتعة، ولأشكر الكاتب على هذا الإنجاز الرَّائع والدّاعم لمسيرة شعبنا من أجل تحرّره، ولأثمّن وفاء ومحبة زوجتي لأستاذها المعلّم، فنعم الاستاذ المعلم ونعم الطَّالبة ووفائها.

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: