
ا. د. محمد تركي بني سلامة: تفجير الكنيسة في دمشق… حين ينهار الحرم ويتفجّر الضمير
الأستاذ الدكتور محمد تركي بني سلامة
في صباحٍ دمشقيٍّ خافتٍ من الضوء، تفجّرت الكلمات قبل أن تتفجّر الحجارة. كانت الكنيسة صامدة هناك، تحمل على جدرانها صلاة المحبة والسلام، فإذا بها تتحول فجأة إلى رماد، وركام، ولهب. يوم الأحد الأخير في دمشق لم يكن كأي يوم؛ لقد كان يوماً أسود حالكاً في تاريخ العرب والمسلمين، بل في تاريخ الإنسانية كلها.
أن تُفجَّر كنيسة، في قلب مدينة حملت رسالة التعدد والتسامح عبر آلاف السنين، ليس مجرد عمل إرهابي – بل إعلان فاضح عن إفلاس أخلاقي كامل، وانحدار مرعب في الوعي، وضربة قاتلة لما تبقى من ضمير في هذا الشرق الجريح.
الكنيسة لم تكن مجرد مبنى. كانت رمزًا، رسالةً، تاريخًا حيًّا، وجرسًا يرن في قلب المدينة ليذكرنا كل يوم أن دمشق تسعنا جميعًا، كما كانت دومًا: للمسلم والمسيحي، للعربي والكردي، للفقير والغني، للحالم والمجروح.
من فجّر الكنيسة، لم يكن يهدف فقط إلى قتل من فيها، بل أراد أن ينسف “المعنى” ذاته: معنى العيش المشترك، والاحترام المتبادل، والسلام الاجتماعي. أراد أن يصيبنا في أعماقنا، في قدرتنا على تصديق أننا ما زلنا نصلح لأن نعيش معًا في وطن واحد، مهما اختلفت أدياننا وأسماؤنا ولهجاتنا.
ما جرى في دمشق هو تذكير موجع بأن سوريا ما زالت تُدفع ثمن استقلالها، وتنوعها، وعمقها الحضاري. لم تكن يومًا بلدًا سهلًا لمن أراد اختزالها في طائفة أو حزب أو لون واحد، ولهذا يدفع السوريون من دمهم كلما قرر مجرم أن يشعل نارًا في بيت من بيوت الله.
ولكن مهما اشتدّ الجرح، ستبقى سوريا وطنًا آمناً، مستقراً، حرّاً، ديمقراطياً، مدنياً، على كامل ترابه. سوريا ليست ساحة لتصفية الحسابات، وليست حقل تجارب لنزعات الهيمنة الخارجية، وليست سلعة بيد تجار السياسة والموت.
وفي غمرة الدموع والركام، لا بد أن نتذكر أن هناك أرضًا سوريةً أخرى تُستباح يوميًا، ولكن بصمت مخجل… إنها لواء الإسكندرون.
منذ العام 1939، حين قُدِّم اللواء السوري على طبق من الخديعة إلى تركيا، وما يزال العرب، أو معظمهم، يتجاهلون هذا الاحتلال الصارخ. لا بيانات شجب، ولا مؤتمرات دعم، ولا حتى تغريدة استنكار من أولئك الذين لا يتوقفون عن الحديث عن وحدة التراب العربي.
لواء الإسكندرون ليس قضية منسية فقط، بل جرح مفتوح في خاصرة كل سوري، وكل عربي حر. وإذا كنا اليوم نبكي على كنيسة مفخخة، فلنتذكر أن هناك مدينةً بأكملها قد سُرقت منا، وأن استعادة الحقوق لا تكون بالبيانات، بل بالإرادة والعزم والتذكير المستمر بأن الأرض لا تُنسى.
ما جرى اليوم في دمشق، وما يجري بصمت منذ عقود في لواء الإسكندرون، يعيدنا إلى حقيقة واحدة: أن مشروع الاستبداد والتطرف والطغيان، بكل نسخه ومموليه، لا يحتمل التعدد، ولا يحترم الإنسان، ولا يؤمن بالوطن. يريدنا خائفين، ممزقين، متقاتلين، كي يستمر في حكم أنقاضنا.
لكن هذا الشرق، الذي صمد آلاف السنين، سيبقى. ستُبنى الكنائس من جديد، وستدق الأجراس، وسيعود الأطفال يركضون في الحارات، وسيظل اسم “سوريا” محفورًا في جبين الشمس لا في ركام الدم.
كلمة أخيرة
إن تفجير الكنيسة في دمشق جريمة ضد الإنسانية كلها. جريمة لا تبررها قضية، ولا يدافع عنها إلا خائن أو مأجور أو منزوٍ عن نور العقل.والأمل باقٍ، ما بقي صوت يقول: لا، لن يُهزم الوطن، ولن يُنسى اللواء، ولن يُطفأ نور المحبة.
أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية وحقوق الإنسان
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: