
تضطلع المنابر الإعلامية الجادة بدور أساسي في تسليط الضوء على قضايا الفساد والاختلالات التي تطال تدبير الشأن العام، من خلال نقل الوقائع بدقة ومسؤولية، دون السقوط في إصدار الأحكام المسبقة أو الحلول محل الجهات الرقابية والقضائية المختصة.
ومع ذلك، يبقى من حق الرأي العام الاطلاع على ما يجري في مؤسساته، وتعزيز وعيه القانوني، ولو في حدوده الدنيا، ليميز بين ما هو مشروع وما هو متجاوز، خاصة حين يتعلق الأمر بمبدأ دستوري يفترض أنه حجر الزاوية في بناء دولة القانون: مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل ما ورد في خطاب العرش الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى الأمة سنة 2017، حين قال بوضوح لا يقبل التأويل:
“لقد حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدأ”، في إشارة إلى مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، مؤكدا على ضرورة التطبيق الصارم للفصل الأول من الدستور، ومضيفا: “فكما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب أن يطبق أولاً على كل المسؤولين بدون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة”.
جلالة الملك تساءل بمرارة: “وما معنى المسؤولية إذا غاب عن صاحبها أبسط شروطها، وهو الإنصات إلى انشغالات المواطنين؟”، مشددا على أنه “لا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب.”
لكن على ما يبدو، فإن البعض فهم الخطاب الملكي على طريقته، أو ربما قرأه بالمقلوب، بدليل أن ما نعيشه اليوم في طنجة يتنافى تماما مع تلك التوجيهات الملكية الصارمة.
وفي هذا الإطار، أثارت رخصة سكن وقعها عمدة مدينة طنجة، منير الليموري، بتاريخ 15 أبريل 2024، جدلا واسعا محليا، بعدما طرحت تساؤلات جدية حول مدى قانونيتها، في ظل وجود خروقات عمرانية سابقة حالت دون منح نفس الرخصة لأزيد من 14 سنة.
لكن العمدة، على ما يبدو، يملك مفاتيح “التسهيل الإداري” التي لا تُمنح إلا للقلة القليلة.
وتشير المعطيات التي حصل عليها موقع “المغرب 24” إلى أن العقار المعني سبق أن رخص له سنة 2010، خلال فترة العمدة السابق فؤاد العماري، ويتكون من سرداب، وطابق أرضي، وسدة، وسبعة طوابق، وطابقين خلفيين، غير أن المنعش العقاري، مدفوعا ربما بـ”حماسة معمارية”، أنجز الأشغال بطريقة مخالفة لما تم الترخيص له، مما دفع الواليين السابقين، محمد اليعقوبي ومحمد مهيدية، إلى رفض منح رخصة السكن مرارا، إلى أن جاء العمدة الليموري، وقال لها: “وقعي!”.
من جهة أخرى، لم تجد محاولات صاحب المشروع لتسوية الوضع عبر تقديم طلب عبر منصة “البلاط فورم”، إذ رفضت اللجنة التقنية الثلاثية “المكونة من الوكالة الحضرية، وقسمي التعمير بعمالة وجماعة طنجة” منحه الرخصة، معتبرة أن المخالفات جسيمة وغير قابلة للتسوية وفقا للقانون، غير أن العمدة رأى في رأي اللجنة مجرد وجهة نظر، يمكن تجاوزها بتوقيع واحد.
لكن المفاجأة جاءت بتوقيع العمدة الليموري للرخصة استنادا إلى شهادة مطابقة صادرة عن المهندس المعماري المشرف على المشروع، تعود إلى نونبر 2015، أي تسع سنوات قبل تاريخ توقيع الرخصة، دون أن يتم التحقق الميداني من الوضع القائم كما جرت العادة في مثل هذه الملفات.
وكأن الزمن توقف في 2015، والمبنى ظل كما هو، في انتظار رخصة تأتي على مهل من رفوف العمدة.
وفي هذا السياق، كشفت الوثائق أن المشروع خضع في 2015 لعملية تفويت شققه ومكاتبه، وتم إنشاء رسوم عقارية فردية، مما يعني أن العقار الأصلي T4316/G انتقل إلى ملكية “السانديك” ولم يعد من صلاحيات الشركة الأصلية.
ومع ذلك، تم توقيع الرخصة باسم الشركة، في مشهد يبدو فيه القانون كمجرد نص جميل على الورق، لا أكثر.
ومن جانب آخر، أثار هذا الملف مقارنات لافتة، خصوصا مع حالة رئيس مقاطعة طنجة المدينة السابق محمد الشرقاوي، الذي تم عزله من منصبه بقرار من والي جهة طنجة تطوان الحسيمة الحالي، يونس التازي، رغم أن الخروقات المنسوبة إليه، بحسب كثير من المتابعين، لم تكن جسيمة، بل لا تمثل حتى 10% من حجم التجاوزات التي تطال ملفات عمدة طنجة الحالي.
ومع ذلك، سقط عليه الفصل 64 كما تسقط المطرقة على الطاولة، بينما العمدة الليموري يتنقل بين الملفات المشتبه فيها بكل أريحية، وكأن “ربط المسؤولية بالمحاسبة” مجرد طرفة قانونية تُروى في مجالس القانونيين.
ويبقى السؤال المشروع مطروحا بقوة: لماذا تكيل وزارة الداخلية بمكيالين في ملفات واضحة؟ وهل العمدة الليموري يستفيد من حماية سياسية أو تفاهمات غير معلنة تضعه فوق المحاسبة؟ أم أن في طنجة قانون خاص يفعل حسب المقاس؟
الرأي العام المحلي والوطني في انتظار تحقيق شفاف يعيد الثقة في المؤسسات، ويؤكد أن الجميع سواسية أمام القانون أو على الأقل، يقنعنا بذلك.