حسن لمين: النعجة التي قالت الحقيقة: السخرية السياسية في قصص مونتيروسو

حسن لمين: النعجة التي قالت الحقيقة: السخرية السياسية في قصص مونتيروسو

حسن لمين: النعجة التي قالت الحقيقة: السخرية السياسية في قصص مونتيروسو

 
 
حسن لمين

لا تزال تجربة الكاتب الغواتيمالي أوغوستو مونتيروسو (1921–2003) تمثّل علامة فارقة في فن القصة القصيرة جدًا، لاسيما من خلال مجموعته اللافتة “النعجة السوداء وحكايات أخرى” (La oveja negra y demás fábulas). وقد ازدادت أهمية هذه المجموعة في العالم العربي بعد صدور ترجمتها إلى العربية على يد المغربيين حسن بوتكى وسعيد بنعبد الواحد، ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء (2003).
هذه المجموعة لا تُقرأ فقط كحكايات رمزية فكهة، بل باعتبارها فابلات حداثية ساخرة، تُسائل الحقيقة والسلطة والهوية، وتسخر من الإنسان نفسه قبل غيره.
الفابلة الجديدة: ما بعد إيسوب
ينتمي مونتيروسو إلى تقليد أدبي عريق تعود جذوره إلى إيسوب و«لافونتين»، حيث تتجسّد الحيوانات في هيئة بشرية كأنها مرايا رمزية للصراع الإنساني. غير أن مونتيروسو لا يكرر هذا النموذج بل يفككه ويعيد تركيبه، ليحوّل الفابلة إلى مساحة للتهكم والتأمل في مفارقات العالم المعاصر.
في قصته الشهيرة “النعجة السوداء”، يُعدم المختلف لأنه يقول الحقيقة، ثم تُقام له التماثيل بعد قرن. إنها مفارقة مأساوية تجسد آلية القمع والتمجيد في آن. من يرفض السائد يُقتل، ثم يُمجَّد لاحقًا بعدما تصبح الحقيقة باردة كجماد النُّصب التذكاري.

السياسة والسلطة في غابة مونتيروسو
في قصة “الأسد والنمر”، يتناوب الحاكمان على السلطة، فيما لا يتغير شيء في حياة باقي الحيوانات. كأن الكاتب يسخر من عبثية تداول السلطة في ظل غياب مشروع حقيقي للتغيير. السياسة هنا ليست إلا تبادلًا للمقاعد بين وجوه متشابهة، والنتيجة واحدة: الركود والخوف والانقياد.
هذه السخرية تمتد لتشمل المثقف نفسه، كما في “القرد الذي أراد أن يكون كاتبًا ساخرًا”، أو “الحمار الذي قرأ”، حيث يتحول الطموح المعرفي أو الفكري إلى محض نكتة، مما يسلّط الضوء على هشاشة المثقف حين يُفرغ من فعاليته
الاقتصاد السردي كأداة فلسفية
واحدة من أهم سمات مونتيروسو هي قدرته على قول الكثير بالقليل. فكل قصة، أو بالأحرى كل فابلة، تتشكل من سطور قليلة، لكنها كافية لخلق صدمة رمزية في ذهن القارئ. الاقتصاد السردي هنا ليس مجرد تقنية، بل رؤية للعالم. حين يُختزل الواقع في سطر أو اثنين، فإن ذلك يُظهر هول العبث الكامن خلف التفاصيل اليومية.
أما الترجمة العربية، التي أنجزها حسن بوتكى وسعيد بنعبد الواحد، فقد جاءت موفَّقة في نقل هذه الروح الساخرة والمكثّفة، مع الحفاظ على نبرة الكاتب ونَفَسه الرمزي، وهو أمر لا يُستهان به في نقل الأدب الساخر المتقشف.
رمزية لا تنتمي للغابة وحدها
   ليست حيوانات مونتيروسو سوى أقنعة تختزل المجتمع البشري. الأسد والنمر، النعجة، البومة، الحمار، جميعها شخصيات نمطية تنقل لنا بنية رمزية للسلطة والمعرفة والغباء والتواطؤ. هذه ليست قصصًا للأطفال، بل مرايا مظلمة للعالم الذي نحيا فيه. ومثل كل الرموز الناجحة، فهي تنتمي للغابة كما تنتمي للمكتب والبرلمان والجامعة والمقهى.
النعجة السوداء داخلنا
في النهاية، لا تقول لنا “النعجة السوداء” سوى شيء واحد: الحقيقة غالبًا ما تُقتل، ثم تُقدّس بعد فوات الأوان. ومهما أعدِمَت النعجة السوداء، فإنها تعود في كل عصر، في هيئة شخص مختلف، أو فكرة، أو صوت، أو كتاب. إنها تمثيل رمزي لكل فرد يجرؤ على الخروج من الصف، وكل فكرة تجرؤ على زعزعة الراكد.
وهنا تكمن قيمة هذه المجموعة: في سحرها التهكمي، في لغتها المكثفة، وفي قدرتها على إسقاط العالم في مرآة حكاية قصيرة. وقد ساعدت الترجمة العربية الممتازة في جعل هذه المرايا أكثر وضوحًا وقربًا من القارئ العربي، الذي يحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى فن يُضحكه ليوقظه.

هوامش
1- النعجة السوداء وحكايات أخرى- اوغوستو مينتيروسو- ترجمة حسن بوتكى و سعيد بن عبدالواحد- منشورات كلية الآداب بنمسيك – 2003
2- للاطلاع على أثر مونتيروسو في القصة القصيرة جدًا، يُنظر إلى تأثيره في كتابات خورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وغابرييل غارسيا ماركيز.

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: