
استئناف الحروب الصليبية
دكتور محيي الدين عميمور
سيكون من السذاجة التاريخية أن ننظر إلى الهجمة الشرسة على إيران بعيدا عن منطق الحروب الصليبة، أو عن الفكر السياسي الذي كان وراء إقامة الكيان الصهيوني، بل وعن الخلفية الشعبية لصناعة “الكرواسان”( أو الفطائر الهلالية التي تلتهم في إفطار الصباح) والتي ابتكرها البعض لمواجهة الحصار الإسلامي للمدينة الأوربية.
وقد يكون من البلاهة السياسية أن نستبعد من قائمة العدوان المحتمل باكستان وتركيا بل وأفغانستان ثانية، ولا حديث عن المنطقة العربية، فالنظرة إلى الجواري والخصيان هيَ هيَ عبر التاريخ.
وأستسمح القراء في أن أتلمس طريقي لفهم ما يحدث حولنا بعودة سريعة إلى الماضي القريب.
وأعترف بأن متابعتي لملف العلاقات العربية الإيرانية بدأت في منتصف السبعينيات، عندما تمكنت الجزائر تحت رئاسة هواري بو مدين من توفير الجو الملائم لقيام مصالحة عراقية إيرانية، جسدتها الاتفاقية التي وقعها “رضا بهلوي” شاه إيران و”صدام حسين” نائب الرئيس العراقي في العاصمة الجزائرية في مارس 1975، وصاغ خطوطها الرئيسية، فيما عرفت، وزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، وبتنفيذ حرفي لما أتفق عليه الطرفان، وبدون أي محاولة للتأثير على الاتفاق في هذا الاتجاه او ذاك.
لم نكن نسمع آنذاك عن صراع شيعيّ سنيّ أو تناقض عربي فارسي، ولم يكن سرّاً أن الشمال لم يكن متحمسا للوئام بين بغداد وطهران، وهو ما أحسست به من الحوار الذي دار بين الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” والرئيس الجزائري عند زيارة “بو مدين” لواشنطون قبل ذلك بأقل من عام، أي في أبريل 1974، والذي بدا من دهشة الرئيس الأمريكي وهو يسمع من الرئيس الجزائري تعبير ” تريدون إقامة إسرائيل ثانية في المشرق”، والذي سارع “هنري كيسنجر” بتوضيحه قائلا إنها إشارة إلى دعم واشنطون للطموحات الكردية.
وربما كان من الطبيعي أن يثير الموقف الجزائري حفيظة بعض القيادات الكردية التي كانت دمية في يد شاه إيران والسلطات البريطانية قبل ذلك، لكن الغريب كان أن تتلقى الجزائر اتهامات ينقصها الذكاء السياسي من قيادات عربية، راح بعضها يتباكي على الأرض والأرضية التي كسبتها إيران.
وتغير الوضع في نهاية السبعينات، وإذا بنفس القيادات العربية التي كانت تتنعم في أحضان الشاه تغير موقفها بـ180° درجة عند سقوطه، وعندما تغير موقف إيران بنفس الدرجة تجاه الكيان الصهيوني، وكان هذا هو الأكثر أهمية.
عندها فقط أصبحنا نسمع ونقرأ عن الانحراف الشيعي وجرائمه ضد صحابة رسول الله، ووصل الأمر إلى حدّ اعتبار “طهران” أخطر على الوطن العربي من “تل أبيب”، وراح الجميع يشجعون العراق على تخليص الأمة من البُعْبُع الإيراني، وراحت دول عربية تبيع أسلحتها القديمة للعراق بأضعاف الثمن، وتتخلص من حدّة البطالة بتوريد العمال الزراعيين للبلد العربي المقاتل.
وتصاعدت النعرات العرقية والمذهبية مع قيام الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر 1980، ولم يكن سرّا أن الوطن العربي أصبح يعيش شرخا هائلا تجمعت فيه معظم دول المشرق العربي ضد إيران، ولم يعُدْ دور واشنطون والشمال عموما في صب الزيت على النار خافيا على أحد.
ورفضت الجزائر الانحياز إلى أي طرف، وقالت، بنص تعبير الرئيس الشاذلي بن جديد الذي خلف هواري بو مدين في 1978، إنها ترفض أن تتحول الحرب بين بلدين جارين إلى صراع عرقي بين قوميتين متجاورتين.
وكان العجيب هو أن من وقفوا مع العراق وضد إيران في الثمانينيات كانوا هم أنفسهم من ساهموا في الحرب ضد العراق في مرحلتين تاريخيتين متتاليتين، حتى ولو كان المبرر في مرحلة التسعينيات الخطأ التاريخي للرئيس صدام حسين بغزو الكويت.
ووصل الأمر في الألفية الثالثة بدرجة العداء إلى أن بلدا عربيا رفض أن تنزل طائرة الرئيس الشاذلي لتتزود بالوقود في أحد مطاراته، بينما كان الشاذلي يطوف بالمنطقة في الألفية الثالثة محاولا تفادي تدمير العراق.
كان موقف الجزائر مرتكزا على نظرة استراتيجية للأمن القومي العربي الإسلامي الذي يرى أن المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية هما جناحان متكاملان، يشكل كل منهما العمق الإستراتيجي للآخر.
وأتصور أن هذا هو ما حدا بقيادات عربية واعية إلى دعم الاختيار النووي لباكستان، وهو ما يعود الفضل في إنجازه أساسا للرئيس الجزائري هواري بو مدين والعاهل السعودي الملك فيصل والقائد الليبي معمر القذافي وربما آخرين فضّلوا، لضرورات ارتأوها، الابتعاد عن دائرة الضوء.
وعندما ندرك أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة لعملية اختراق واسعة لم ننتبه لها في البداية، نفهم ما وراء محاولات اختراق عدد من الدول الإفريقية جنوب الصحراء، والتي تشكل مع الشمال الإفريقي منطقة أمن قومي مشترك، وهي محاولات نكتشف مدى سذاجة البعض ومدى الخلل في وعي البعض الآخر، ناهيك من العمالة المؤكدة للعدوّ الصهيوني.
ولن أواصل اجترار التاريخ مكتفيا بالقول أن نقطة الفرز على الساحة أصبحت، بعد كامب دافيد وأوسلو ووادي عربة، هي الموقف من المقاومة الفلسطينية، حيث لا يستطيع أي جاحد أن ينكر دور إيران في دعم المقاومة الفلسطينية، سواء بشكل مباشر أو عبر حزب الله، الذي أصبح، خصوصا بعد انتصاره على الغزو الصهيوني، عنصرا رئيسيا في التوازن السياسي الذي يعيشه لبنان.
واليوم، ولأسباب واضحة مبعثها تمسك بالعفة السياسية، لن أتوقف عند القصور الأمني الإيراني وخلل التقديرات الإيرانية في التعامل مع الكيان الصهيوني بعد انطلاق طوفان الأقصى، ولن اذكر بما حدث لحزب الله وبكل ما عرفته إيران من اغتيالات، لم تمحُ نتائجها البلاغيات الخطابية.
واكتفيت بالقول في 17 أبريل 2024 إن القضايا الكبرى لا تواجه بالمبالغة في الرضا عن النفس، بل تتطلب وقفة نقد ذاتي تسمح بتدارك العيوب وإصلاح الخلل.
وأتذكر أنني قلت يومها أيضا أن إيران لم تدرك أن أي حرب لا تدعمها القوة الإعلامية هي حرب فاشلة حتى ولو حققت أكبر النجاحات، ولولا “هوليود” لما كان للحرب العالمية الصدى الهائل الذي ما زلنا نعيش آثاره حتى اليوم.
ثم ماذا ؟
لن أذكر بقضية الثيران الثلاثة التي مللت من ترديدها، بل اكتفي بالقول إن هزيمة إيران ستضعنا جميعا ونهائيا تحت رحمة الكيان الصهيوني، بمن فينا دعاة الصبر الإستراتيجي وسدنة الديانة الإبراهيمية وهواة الغزوات الليلية.
وسيعبث عناصر الكيان ببلداننا كما عبث السواح الإسرائيليون بفنادق دبيْ، وكما تطاول جنود الكيان على أبناء الكنانة في سيناء، ولن يسلم أحد من عنجهية الصهاينة، حتى من يتصورون أنهم فتحوا لهم أبواب غرف نومهم.
والبليد وحده هو من يطمئن لمن جادلوا ربّ العزة، بل وحاولوا خداعه بالتلاعب اللفظي كما جاء في سورة البقرة.
ولقد خسر الوطن العربي الكثير نظرا لوقوفه ضد الخلافة العثمانية فيما سُميَ بالثورة العربية الكبرى، التي قادها “لورنس”، ولم يستطع لمدة طويلة اكتساب باكستان لأنه ظل طويلا يرى في الهند حليفه الطبيعي، بتأثير مرحلة عدم الانحياز التي تقلصت مع غياب أنديرا.
باختصار، سقوط إيران سيكون بداية السقوط للجميع، وربما لعروش ستكون مهمتها قد انتهت، كما انتهى دور الشاه في إيران وضياء الحق في باكستان.
واليوم هو لحظة الحقيقة أمام الوطن العربي.
وإيران ليست أقل رجولة من أفغانستان أو يَمَنِ الحوثيين، لكن آخرين لن يكون أمامهم، إذا سقطت طهران، إلا الرحيل تاركين وراءهم حقائب لم يتسع الوقت لحزمها.
المطلوب اليوم هو إدراك الحقيقة التي تقول بأن معركة غزة جزء من معركة طهران واستمرار للحرب التي أطلقها “أوربان الثاني”، وبأن السقوط الحقيقي للأمة هو السماح باستمرار رفرفة علم الكيان في سمائها، وبقوافل التموين الموجهة لتغذية جنوده، وبحمايته بإسقاط الصواريخ الموجهة له من إيران دفاعا عن وجودها، أو اعتقال مشارك في قافلة مساعدة إنسانية لأنه يحمل جواز سفرٍ فرنسي، لعله مزدوج الجنسية من أبناء المغرب العربي، إن لم يكن فرنسيا ظن أن اعتناقه للإسلام سيكفل له الحماية في أرض ترفع راية الإسلام..
ولن يكون من باب المبالغة العمل الذكي على أن ينتهي “نتنياهو” كما انتهى “موسوليني” سحْلا، وليس كما قضى “هتلر” انتحارا، لأن التاريخ سيثبت، إن أردنا ذلك وتعاملنا على ضوئه وأقنعنا “أبناء العمومة” به، أنه جنى على اليهود في العالم كله ولوث سمعتهم وجعلهم كالبعير الأجرب، وخان ذكرى “بن غوريون”، وكانت انتصاراته في واقع الأمر هزائم تاريخية للشعب اليهودي لم يعرفها منذ فرعون موسى، ويجب أن يلعنه أبناء جلدته حتى ولو تقاعس بعضنا حتى عن عتابه.
ويجب أن يدرك الشمال أننا وصلنا اليوم إلى اليقين بأن زيارة القدس المحتلة، والتي يهللون لها منذ نوفمبر 1977، وكل ما ترتب عنها وسار على نهجها، لم تكن إنجازا تاريخيا يخدم السلام بل كانت استكمالا لحرب صليبية أصبح تسويقها بضاعة كاسدة.
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: