الذهب.. ملاذ العالم في وجه “عدم اليقين”

الذهب.. ملاذ العالم في وجه “عدم اليقين”

نمو كبير في مشتريات الأسواق الناشئة غير المتحالفة مع الغرب ومنها الصين والهند وتركيا

في وقتٍ وصف فيه الاقتصادي البريطاني الشهير جون ماينارد كينز، الذهب ذات يوم بأنه “أثر بربري”، لم يكن أحد ليتوقع أن المعدن النفيس سيستعيد مكانته العالمية بعد عقود من التهميش.

ومع نهاية نظام العملات المرتبطة بالذهب في أوائل السبعينيات، بدأت البنوك المركزية ببيع احتياطاتها الذهبية، واستمرت في ذلك لعقود، ما أوحى بأن هذا المعدن العتيق في طريقه إلى فقدان أهميته.

لكن الذهب عاد بقوة إلى الساحة، ليس فقط لدى المضاربين أو من يُعرفون بـ”مهووسي الذهب” الذين لا يثقون في العملات الورقية الحديثة، بل أيضاً لدى أكثر المستثمرين تحفظاً في العالم.

فقد كشفت بيانات جديدة نُشرت مؤخراً أن الذهب تفوق العام الماضي على اليورو ليصبح ثاني أكبر أصل احتياطي عالمي تحتفظ به البنوك المركزية، بعد موجة شراء قياسية.

وفي عصر سياسي مضطرب، حيث تتعرض الكثير من الفرضيات الاقتصادية الأساسية للتشكيك، عاد الذهب ليكون مرساة الاستقرار.

وأسهمت الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى جانب تصاعد التوترات الجيوسياسية والشكوك حول الدور المستقبلي للدولار الأمريكي، في إشعال موجة صعود حادة لأسعار الذهب، فاجأت حتى المتحمسين للمعدن الأصفر، بحسب صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.

وقد قفز سعر المعدن النفيس إلى أعلى مستوى له على الإطلاق خلال إحدى جلسات أبريل، متجاوزاً الرقم القياسي المسجل عام 1980، وارتفع بحوالي 30% منذ بداية العام.

ومنذ تولي ترامب منصبه متعهداً بـ”عصر ذهبي” لأمريكا، كان الذهب الأفضل أداءً بين فئات الأصول، متفوقاً على الأسهم والطاقة والعملات الكبرى.

بالنسبة لبعض المستثمرين، لم يفقد الذهب أبداً مكانته كملاذ آمن مطلق ضمن النظام المالي العالمي، إلا أن الارتفاع الأخير كان لافتاً بشدته، لا سيما في ظل منافسين تقنيين مثل “بتكوين”، الذي يسميه المتحمسون للعملات المشفرة “الذهب الرقمي”.

قال كينيث روجوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد والرئيس السابق لقسم الاقتصاد في صندوق النقد الدولي: “يقول الناس كثيراً إن بتكوين هو الذهب الجديد، وأنا أقول لا، الذهب هو الذهب الجديد”.

ومع تجاوز سعر الذهب 3,000 دولار للأونصة هذا العام، تذكر المتداولون صدمات الأسواق السابقة؛ فقد تخطى الذهب حاجز 1,000 دولار خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، ومر عبر 2,000 دولار خلال جائحة كوفيد-19.

ومع تزايد التساؤلات حول صحة الدولار، الذي لا يزال العملة الاحتياطية الفعلية، ومستقبل السندات الحكومية الأمريكية، يشهد الذهب، بوصفه الملاذ التقليدي للعالم، لحظته المنتظرة.

يرى جون ريد، كبير استراتيجيي السوق في مجلس الذهب العالمي، أن السبب الرئيسي لصعود الذهب هو ترامب نفسه، مضيفاً أن “المخاطر وعدم اليقين الناجمَين عن الإدارة الأمريكية الجديدة هما المحرك الأساسي”.

لقد تصدر الذهب المشهد في موجة الهروب نحو الأمان التي أعادت تشكيل الأسواق العالمية مع بداية الولاية الثانية لترامب، حيث تدفق المستثمرون نحو الذهب وسندات الدول المصنفة آمنة، هرباً من تداعيات السوق العنيفة بعد فرض ترامب رسومه الجمركية التي وصفها بـ”يوم التحرير”.

الرئيس التنفيذي لشركة “ويتون بريشوس ميتالز”: نحن بحاجة إلى مخزن للقيمة لا يتأثر بالسياسة

وسجلت الصناديق المتداولة في البورصة والمدعومة بالذهب تدفقات صافية بلغت 322.4 طن خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، وهي أعلى مستويات تُسجل منذ جائحة كورونا.

ويعكس صعود الذهب جزئياً تآكل الثقة في الدولار الأمريكي تحت إدارة ترامب، غير أن هناك عاملاً أساسياً آخر، يتمثل في اضطراب السياسات الأمريكية التي اختبرت حتى قدرة الدولار والسندات الأمريكية، وهي الأصول التي عادةً ما ترتفع في أوقات الصدمات العالمية، على الحفاظ على قوتها.

لطالما تساءل المراقبون إن كانت هيمنة الدولار ستستمر إلى ما لا نهاية، لكن إدارة ترامب شكلت اختبار ضغط فعلي. فالمخاوف المتزايدة لدى المستثمرين الأجانب، من احتمال فرض ضرائب على الاستثمارات، إلى الشكوك في استقلالية بنك الاحتياطي الفيدرالي، تزامنت مع قلق متزايد حول استدامة ديون أمريكا، ما أدى إلى إعادة تقييم شاملة للتعرض لأصول الدولار.

وقال مارك سوبل، المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأمريكية ورئيس فرع الولايات المتحدة في مركز الأبحاث “أومفيف” (OMFIF): “صعود الذهب يعكس جزئياً تقويض الإدارة الأمريكية للخصائص التي تستند إليها هيمنة الدولار”.

وأضاف سوبل، أن “مهاجمة مؤسسات مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي والمحاكم، والتهديد بزيادة الدين والعجز من خلال مشروع القانون الضخم المسمى (الفاتورة الجميلة الكبيرة)، والتصرف كشريك غير موثوق لحلفائنا، كلها عوامل تقوض مكانة الدولار”.

وفي ظل الاندفاع التاريخي نحو الذهب، يرى بعض المستثمرين أن السوق باتت “مبالغاً فيها”.

ووفقاً لمسح أجراه “بنك أوف أمريكا” الشهر الماضي، رأى 45 % من مديري الصناديق أن الذهب بات مُقيماً بأكثر من قيمته الحقيقية، وهو أعلى مستوى مسجل في بيانات تعود إلى عام 2008.

وللشهر الثاني على التوالي، اعتبر المستثمرون أن المراهنة على ارتفاع سعر الذهب هي الصفقة “الأكثر ازدحاماً”.

وقد زاد الإقبال على شراء الذهب، الذي كانت تغذيه أساساً مشتريات البنوك المركزية، خاصة في الأسواق الناشئة، من حدة هذه الموجة.

تحتفظ البنوك المركزية بالأصول الاحتياطية كنوع من “صندوق الطوارئ”، لمواجهة الأزمات الاقتصادية، وتركز على أصول تحافظ على قيمتها في الأزمات وتكون قابلة للبيع بسهولة، وليس على تحقيق عوائد مرتفعة.

على مدار عقود، كانت الأصول المقومة بالدولار هي الخيار المفضل، نظراً إلى أن سوق سندات الخزانة الأمريكية البالغة 29 تريليون دولار تُعد الأكبر والأكثر سيولة في العالم، لكن في السنوات الأخيرة، بدأت إدارات الاحتياطيات في البنوك المركزية بتقليص انكشافها على الدولار.

ويشير الخبراء إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو خطر العقوبات الأمريكية على الاحتياطيات الدولارية.

فقد تسارع اتجاه “التخلي عن الدولار” منذ عام 2022 عقب الحرب الروسية الشاملة ضد أوكرانيا، عندما استهدفت الولايات المتحدة قدرة روسيا على الوصول إلى الأسواق المالية، ما دفع العديد من الدول إلى التساؤل عما إذا كانت احتياطاتها بالدولار مُعرضة للخطر أيضاً.

وقد تجاوزت صافي مشتريات البنوك المركزية من الذهب حاجز 1,000 طن سنوياً خلال السنوات الثلاث الماضية، في مستويات قياسية، مع نمو كبير في الشراء من دول الأسواق الناشئة غير المتحالفة مع الغرب، مثل الصين والهند وتركيا.

يرى باري آيشنجرين، المؤرخ الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، أن “الارتفاع في أهمية الذهب داخل احتياطيات البنوك المركزية والنظام النقدي يعكس صعود الأسواق الناشئة”.

من وجهة نظر البنوك المركزية، يقول آيشنجرين إن غياب البدائل المقنعة للدولار، مثل اليورو الذي يعاني من نقص الأصول القابلة للاستثمار مقارنة بسندات الخزانة الأمريكية، هو ما يدفع نحو الذهب.

وأضاف أن “المسألة ليست في مزايا الذهب الذاتية كأصل احتياطي، بل في حدود الخيارات الأخرى”.

واليوم، أصبحت حيازات الذهب لدى البنوك المركزية، من حيث الوزن، قريبة من ذروتها في عام 1965 خلال حقبة “بريتون وودز”، وإن كانت لاتزال أقل بكثير كنسبة من إجمالي الأصول.

وقالت روث كرويل، الرئيسة التنفيذية لـ”رابطة سوق لندن للسبائك”: “نحن نقترب من احتياطيات ذهب للبنوك المركزية تُعد من بين الأعلى في التاريخ. أن يتجاوز الذهب اليورو، فذلك تغيير جذري”.

وأضافت كرويل: “أعتقد أننا في عصر جديد، لأن هناك إدراكاً واسعاً بين المستثمرين التقليديين للدور الذي يلعبه الذهب في أوقات عدم اليقين”.

ومع ذلك، لا يعتقد معظم المستثمرين والاقتصاديين أن الذهب سيحل محل الدولار كأهم أصل احتياطي، نظراً إلى مركزية العملة الأمريكية في النظام المالي والتجاري العالمي، وإلى ما تتمتع به من سيولة كبيرة.

لكن للذهب عيوب مادية مقارنة بالدولار. فقد ظهرت هذه العيوب جلية في مطلع العام، عندما أدت المخاوف من فرض رسوم جمركية أمريكية إلى تدفق غير مسبوق للذهب المادي إلى نيويورك، حيث سارع المتداولون لتفادي الضرائب المحتملة.

وتسبب هذا الهلع في طوابير طويلة لسحب الذهب من خزائن بنك إنجلترا، ثاني أكبر مستودع للذهب في العالم، بعد عجز موظفي البنك عن تلبية الطلبات المتزايدة.

وقد تلاشت تلك المخاوف الآن، بعد تأكيد ترامب عدم فرض رسوم جمركية على الذهب، وتغذي المخاوف بشأن تصاعد الديون الحكومية في الولايات المتحدة وغيرها من الدول موجة الصعود الذهبية.

ومع توقع أن يضيف مشروع موازنة ترامب نحو 2.4 تريليون دولار إلى ديون الولايات المتحدة خلال العقد المقبل، يخشى بعض المستثمرين من أزمة قد تضعف العملات التقليدية.

يشعر بعض المراقبين اليوم أن هذا الإنفاق المالي المفرط يمثل تأكيداً لوجهة نظر من يعتقدون بأن العالم لم يكن ينبغي أن يتخلى عن قاعدة الذهب، فهم يرون أن هذا التبذير جزء لا يتجزأ من طبيعة العملات الورقية التي يمكن طباعتها بلا حدود.

يقول راندي سمولوود، الرئيس التنفيذي لشركة “ويتون بريشوس ميتالز” المختصة بحقوق التعدين: “نحن بحاجة إلى مخزن للقيمة لا يتأثر بالسياسة”، واصفاً عودة الذهب بأنها لحظة “عودة إلى المستقبل”.

وأضاف: “لن يفاجئني إن تم في المستقبل تدريس تجربة الأعوام الستين بين 1970 و2030 في مادة الاقتصاد، وكيف أن تجربة العملات الورقية قد فشلت”.

لكن الاقتصاديين يشيرون إلى أن الدول كانت تملك أسباباً وجيهة للتخلي عن النظام النقدي القائم على الذهب، والذي فاقم آلام الكساد العظيم في الثلاثينيات، من خلال تقييد قدرة الحكومات على زيادة المعروض النقدي لدعم النشاط الاقتصادي.

فربط العملات بالذهب كان غالباً سبباً في التقلب وليس الاستقرار، لأنه كان يُقيد سياسات البنوك المركزية والحكومات.

ومع ذلك، حتى أولئك المستثمرين الذين يعتقدون أن موجة ارتفاع الذهب القياسية يصعب استمرارها، لايزالون يرون فيه وسيلة تحوط ضرورية، ما يؤكد أن سحر الذهب كملاذ في العاصفة لا يزال قائماً.

ويختم سمولوود بالقول إن “الذهب هو معدن الراحة .. الناس يبحثون عن الطمأنينة في أوقات التوتر، والعالم اليوم مليء بالتوترات”.