
لم يعلم المهندس السوري محمد علي الذي صمم مبنى البرلمان السوري عام 1929 أن هذا البناء سيكون على مدى عقود من الزمن مقراً يستحوذ عليه الديكتاتور ويستخدم من خلاله اسم الشعب في الشكل لا في المضمون.مجلس الشعب السوري.. على الرغم من عراقة البناء المتموضع في قلب دمشق وسط حي الصالحية، وتاريخ هذا البناء العميق في الذاكرة السياسية السورية، إلا أن البناء ذا الشكل الفرنسي، لا يستوقف المارة على الإطلاق ولا يشكل أدنى انتماء للشعب السوري، ذلك أن هذا المقر كان دائماً مصدر الإحباط والفشل للشعب.. هذه هي الصورة الواقعية على مدى عقود في وجدان معظم السوريين.في كل دول العالم ثمة تقاليد تاريخية للبرلمانات، إلا في سورية، فإن هذا المجلس يلقب بعدة ألقاب «مجلس المهرجين–مجلس الفاسدين–مجلس الكاذبين»، ومسميات أخرى لا تنتهي في الثقافة السورية الساخرة، إلا أن هذه المصطلحات في طريقها إلى الزوال بعد أن شكل الرئيس أحمد الشرع لجنة الـ11 للإشراف على تشكيل وانتخاب ممثلي الشعب بعد أن حُرموا هذا الحق الطبيعي على مدى عقود من الزمن.لقد انتهى هذا الجزء من التاريخ السوري الأسود بعد الثامن من ديسمبر مع هروب الأسد، وتولي الشرع المرحلة الرئاسية الانتقالية في 20 فبراير الماضي، ليعيد الشعب السوري اعتباره لنفسه أولاً وتاريخه وعراقته ثانياً.كل شيء تغير في سورية، الإرادات، القناعات، الثقافة السياسية، وتطلعات السوريين أيضاً، ومع ذلك لا تزال سورية تحتاج إلى ترسيخ الذهنية الجديدة وخلق حالة سياسية ودستورية وقانونية جديدة، فالطريق لا يزال طويلاً ووعراً لإعادة ثقة الشعب المسلوبة على مدى عقود، ثقة الشعب بمؤسساته وثقة الشعب بوزرائه، وهذا ما تعمل عليه الإدارة الجديدة عبر كل المؤسسات الجديدة.من الواضح أن الرئيس الشرع ينتقل من دائرة إلى أخرى لإعادة هيكلة الدولة السورية بخطوات متأنية ومدروسة، ففي بداية أبريل الماضي، أنهى الشرع اللمسات الأخيرة على تشكيل حكومة جديدة قوبلت باهتمام واسع من السوريين، ومع رفع العقوبات الأمريكية في 14 مايو الماضي بدأت الحكومة أعمالها لإعادة ترميم بنية الدولة المتهالكة.اليوم بعد أن تشكل مسار الحكومة السورية وباتت على سكة العمل والإنجاز، انتقل الشرع إلى الدائرة الثانية ذات الأهمية التاريخية في الذاكرة السياسية السورية وهي مجلس الشعب، لكن هذه المرة وفق متطلبات المرحلة الجديدة، إذ أصدر الرئيس السوري مرسوماً بتشكيل لجنة من 11 شخصاً تعمل على دراسة المعايير من أجل ولادة مجلس شعب حقيقي يمثل أكبر قدر من تطلعات الشعب السوري، على عكس كل المجالس السابقة في حقبة النظام التي كانت تمر عبر الأجهزة الأمنية بالدرجة الأولى وعبر الجبهة الوطنية التقدمية التي تحجز مقاعدها مسبقاً دون مشاورة الشعب السوري.هذه المرة الأولى التي تتشكل لجنة خاصة من أجل مجلس الشعب، ولعل خارطة الأسماء المكلفة بهذه المهمة وعلى رأسها محمد طه الأحمد الذي يعتبر من الشخصيات الموثوقة والحصيفة في وضع المعايير، فضلاً عن الدكتور بدر جاموس، وأنس العبدة، وحسن الدغيم، ياسر كحالة وأسماء أخرى، كلها تشير إلى مرحلة معتبرة من تاريخ سورية المؤسساتي والسياسي.وبعيداً عن الشو الإعلامي والترندات، عكفت هذه اللجنة منذ اليوم التالي من لقاء الشرع على دراسة آلية الترشح إلى المجلس دون أن تمارس على هذه اللجنة أية ضغوطات أو إملاءات، ولعل هذه المرة الأولى التي يكون فيها ممثلو الشعب من دون وصاية أمنية أو مقاعد مسبقة الصنع.من شهرين إلى ثلاثة أشهر، سيكون عمل اللجنة العليا للانتخابات جاهزاً لنقلة نوعية جديدة على المستوى البرلماني السوري، تتخللها أيضاً جولة ميدانية من أعضاء اللجنة للمحافظات لمناقشة العملية الانتخابية مع الجهات الرسمية والفعاليات الأهلية، بعد ذلك ستكون سورية على موعد مع شكل جديد من أشكال المؤسسة التشريعية التي طالما كانت غائبة على مدى ستة عقود.ثمة تطلعات سورية كبيرة بعد تشكيل هذه اللجنة، خصوصاً أنها ليست «من لون واحد» وقادرة على صياغة معايير حقيقية تفتح المجال للمرة الأولى أمام كل مكونات وفئات الشعب السوري للمشاركة في صياغة مجلس على مستوى المرحلة التي تمر بها البلاد.مع العهد الجديد لسورية، والانتقال التاريخي من حقبة إلى أخرى، هناك من يتطلع إلى هذا البناء التاريخي أن يكون أكثر قرباً من الوجدان السوري الشعبي، وأن يحظى هذا المكان بالاحترام أسوة ببرلمانات العالم، وهو ما يضع أمام اللجنة المشكلة مسؤوليات كبرى في أن تعطي هذا الشعب المسلوب بعضاً من تطلعاته في المشاركة السياسية وبناء سورية الجديدة.أخبار ذات صلة