الدكتور كايد الركيبات: قراءة في كتاب “حكايتي من الكسارة إلى الوزارة”

الدكتور كايد الركيبات: قراءة في كتاب “حكايتي من الكسارة إلى الوزارة”

الدكتور كايد الركيبات: قراءة في كتاب “حكايتي من الكسارة إلى الوزارة”

الدكتور كايد الركيبات
في كتابه الصادر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع سنة 2022، ينقلنا رجل السياسة الإعلامي محمد داودية من عالمه المترف بالإنجازات والنتائج التي حققها بعد مخاض طويل من المعاناة والبؤس، في رحلة تخترق عنصر الزمن وتعتصر مكنونات الذاكرة، وتعبق بأريج الحواس والمشاعر.
داودية الذي كتب لنا فصولاً من حياته في كتاب عنونه بــ “حكايتي من الكسارة إلى الوزارة” رسم لنا خارطة مسطحة لتضاريس حياته سهلها وصعبها، فضائها وتقلبات مناخها، خطوط حدودها اليتم، ورحمة أولي الرحم، والضوابط القيمية والأخلاقية المستمدة من تنشئة سليمة في ظروف قاسية. لوّن تضاريسها بألوان من الجسارة الفردية، والتكوين الثقافي الذاتي، والعزيمة والإصرار المرادف لإدراك الواقع، والإخلاص في العمل، مقتنصاً الفرص ومدافعاً جلداً عن حقوقه ومكانته التي يرى نفسه فيها إن حاولت بعض القوى العارضة قصره عنها.
ولد هناك في عين الشمس! حيث حُمِست حجارة الصحراء بلهيب سَموم الصيف، وغُسِلت بسراب شعاع الشمس، “أنا ابن السراب والهجير، والغبار والمدى البنيّ الصحراوي الأجرد، أبصرت النورَ طفلاً منفرداً في حالة حصار، في الإجفور [الرويشد] الواقعة على خط نفط كركوك ــ حيفا، في قلب البادية الأردنية” (ص: 21).
من رحم الصعاب ولدت العزيمة، تعددت الجوانب الحياتية التي تعرض لها داودية في حكايته، ولتقريب هذه المحاور اجتهدت في تصنيفها وفقاً للموضوعات التي تعبر عنها إلى سبعة محاور موضوعية شاملة في إطارها العام جزئيات متناثرة على امتداد الكتاب، لأن الملاحظ أن الكاتب اتبع نهجاً ذا طابع وجداني حر، متقلب، غير ملتزم بالترتيب الزمني أو الموضوعاتي الصارم، وهو أقرب إلى كتابة المذكرات التأملية التي تعكس تقلبات الذاكرة ومزاج الكاتب لا منهج التأريخ أو التحقيق السياسي التصاعدي، مما منح النص طابعاً وجدانياً حراً أكثر منه أكاديمياً مرتباً، فمثلاً يذكر تجربته في “بصيرا عام 1970″، ثم ينتقل إلى “العمل السري لإحياء نقابة المعلمين”، ثم يعود إلى “كتابه الأول”، ثم إلى وزارة في عهد الخصاونة، هذا يوحي بأن السرد يتبع الذاكرة لا التسلسل.
 أما أبرز المحاور الموضوعية فيمكن تصنيفها على النحو الآتي: أولاً، الكتابة عن الجذور والتكوين الأسري والشخصي ويشمل ذلك ما يتعلق بالنشأة، الأم، الأهل، التجارب المبكرة، والهوية الشخصية، اختار الحديث عنها تحت عناوين فرعية منها، “أمي جظة، القيادية، الحازمة، المهيبة”، “منحني الله أربع أمهات وأربعة آباء”، “طير (ن) بلا جنحان … كيف يطير؟!”، “بلا سند بلا عضد ما خلا الله وامرأة”، “الفتاة العراقية التي لحست عقلي”.
ثانياً: ضمن الكتاب مواقف ومشاهد من التجربة السياسية والعمل العام كالتجارب الوزارية، العمل البرلماني، والصراع مع السلطة، “الكباريتي: ثلاثة مؤثرات خطيرة”، “حزب الدولة”، “وزير للمرة الثانية”، “وزير للمرة الثالثة مع دولة بشر الخصاونة”، “مجلس النواب مكان لدفع الثمن لا لقبضه”، “أول من زار ياسر عرفات في غزة”.
ثالثاً: كشف الكتاب عن شخصية تفاعلية يمكن استبيان نشاطها من محور المثقف والإعلام والنقابة والرقابة الذي تناول فيه دور الكاتب كمثقف ونقابي وصحفي، وموقعه بين الكلمة والسلطة، من العناوين التي أدرجها في حكايته: “كتــابي الأول”، “منعتُ من الكتابة وفصلت من العمل”، “العمل السري لإحياء نقابة المعلمين”، “مجمع النقابات ورابطة الكتّاب أيقونتا المعارضة السياسية”.
رابعاً: كشفت المذكرات التي استرسل بها داودية عن شخصية عاطفية حافظة للود ومقدرة للدور الذي اضطلعت به شخصيات أردنية عاصر تجاربها فتحدث عن شخصيات وأحداث مفصلية في التاريخ الأردني والعربي تضمنت رؤاه ومواقفه من شخصيات محورية وأحداث مهمة، تحت عدة عناوين فرعية منها، “وصفي التل الشهيد المفترى عليه”، “الملك الحسين: القدس قبل كابول”، “بعد ظلم طويل عبد الناصر يتراجع وينصف الحسين”، “زعماء العراق في المفرق”.
خامساً: شعلة الشباب لم تجنبه المتاعب، بل وضعته في معترك الحياة السياسية في زمن كانت النشاطات السياسية نار تكوي لاعبها، فتحدث في مذكراته بإنصاف وواقعية عن الأمن والمخابرات والعمل السري في الأردن خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي فكشف عن ميوله الثورية، وتجربة اختفائه عن المخابرات في إربد وعجلون وكفر جايز والكرك، ليكتشف لاحقاً أن الشخص الذي كان يساعده على التخفي هو عنصر متعاون مع المخابرات، وتحدث عن دور جهاز المخابرات في كشف بعض قضايا التجسس، والتحضير للانقلاب في المفرق، ووجود عناصر الموساد في المفرق، ومخاطرته في حمل رسالة بالحبر السري من بيروت إلى عمان، تحدث عن التحدي الأكبر في تاريخ الحرس الأمريكي الخاص في الرباط، والضغط الإسرائيلي لمنعه من زيارة بيت الشرق في القدس.
سادساً: في محور التجربة الأخلاقية والدينية والوجدانية والوطنية تحدث تفصيلاً تحت عناوين فرعية تعبر عن البعد الإيماني والوطني والتجارب الجامعة للمجتمع، “لا تنم ظالماً ولا تنم مظلوماً”، “لا تُسلم أخاك”، “كنا نرتاد المسجد والكنيسة”، “بلدة الوحدة الوطنية”، “لعنة الهاشميين تطارد القتلة”.
أخيراً: في محور محطات متنوعة وتجارب حياتية وشخصية جمع داودية القصص اليومية، الطريفة أو الرمزية، وبعض المواقف الغريبة، تحت عناوين منها: “سمك طازج في البحر الميت”، “حيلة مُحمّى عن الرز”، “عملت طباخاً في بصيرا عام 1970″، “عملت مترجماً في مطار الثورة”، “الظبية التي روضت ذئباً”.
فنياً يمكن القول إن الكاتب على الأرجح اختار العناوين والموضوعات التي تناولها في كتابه بناءً على الانطباع الشخصي أو الرمزية أو الأهمية الذاتية لكل تجربة، لا وفق نظام سردي تقليدي، فهو يقفز من قصة إلى تحليل، ومن موقف سياسي إلى حالة وجدانية، ثم إلى وصف مكاني أو شخصية مثيرة، لا يلتزم بالتسلسل الزمني، بل يكتب من منطق التجربة الحرة، فينتقل من الطفولة إلى الوزارة ثم يعود إلى حكاية شخصية، انفتاح الشكل السردي يتيح بناءً فنياً حياً ومتعدد الأبعاد، ويحرّر النص من النمطية.
العناوين نفسها التي افتتح بها داودية مشاهد السرد الذاتي حملت طابعاً تأملياً أو أدبياً، “لا تنم ظالماً ولا تنم مظلوماً”، “طير (ن) بلا جنحان … كيف يطير؟!”، “الظبية التي روضت ذئباً!!”، ما عزز انطباع الكتابة الحرة، ذات الطابع الشخصي التأملي أكثر من كونها سرداً توثيقياً منظماً.
وهذا ما يضع القارئ أمام تجربة شخصية غنية، متشعبة، صدامية أحياناً، وإنسانية عميقة في كثير من مفاصلها، تُقدم سيرة رجل جمع بين التمرد الفردي والانخراط في صلب الدولة، وبين الهشاشة الوجدانية وصلابة الموقف السياسي، وتكشف عن شخصية مرنة، تمرّست في الميادين المتنوعة، وعاشت تقلبات الصعود والهبوط، دون أن تفقد هويتها أو قدرتها، فهو دائماً يلتقط مفارقات الحياة، ويستثمر اللغة بأسلوب يشد القارئ ويضفي حيوية على السرد.
وظف داودية التجربة الشخصية، فجعل من مذكراته تجربة وجودية لا مجرد تسجيل لوقائع، “الملك الحسين يرد على مقالة صحفية” “مدير إعلام الملك الحسين” “الملكة علياء غيرت مسار حياتي” هذا الشكل من التموضع الذاتي داخل الأحداث عزز من الطابع الأدبي للسيرة وجعلها نصاً شخصياً بامتياز، تقاطعت فيها السيرة الفردية مع الذاكرة الجمعية.
الذائقة الأدبية عند داودية ناضجة ومركبة، تعبّر عن ثقافة سياسية وإنسانية، وتجربة غنية تمتزج فيها بلاغة اللغة بمرارة التجربة، لنكتشف أنه كاتب مثقف متعدد المراجع، وذائقته تدمج الشعبي بالرسمي، والسياسي بالوجداني، في قالب تعبيري متناغم، لهذا كانت حكاية داودية سيرة تمزج بين التاريخ الشخصي والوطني، وبين الهشاشة والصلابة، وبين النضال والمفارقة الساخرة، إنها تجربة رجل لم يكن مجرد شاهد على زمنه، بل فاعل فيه، وأن ذائقته الفنية تميل إلى الحميمية الصريحة، ولا تتهرب من مشاعر الحب والانكسار والاعتراف، ويميل إلى السخرية السياسية والاجتماعية في حديثه عن المواقف التي تعبر عن ذلك، مما منح السيرة حيوية وأصالة فنية.
القيمة التاريخية لحكاية داودية تستمد أهميتها من تسجيله تطورات الحياة السياسية والحكومية من الداخل، إذ جمعت في الحديث بين السياسي والأمني والاجتماعي والثقافي، مما وفر نظرة نقدية نادرة إلى كواليس القرار ومناخات التغيير الوزاري، وقدرته على توثّق لحظة الشد والجذب بين الدولة والمجتمع المدني، وتسجله مراحل تقييد الحريات أو الصراع من أجل النقابات، وتقديمه صورة شخصية وإنسانية عن رموز الدولة من خلال تجربة مباشرة، ما يغني البعد البشري للتاريخ السياسي، وساهم وصفه لحراك الفرد في الجغرافيا الأردنية والفلسطينية على تسلط الضوء على أثر الكلمة في السياسة، ومكانة الكاتب في المشهد الإعلامي والسياسي ما عكس إيجاباً صورة المجتمع وأدوات المقاومة والعمل السياسي الشعبي.
من خلال قراءة كتاب “حكايتي من الكسارة إلى الوزارة” ندرك أن محمد داودية لم يكتب سيرته لمجرد التوثيق، بل ليمارس فعل الحضور في ذاكرة وطن وتجربة جيل، فجاءت حكايته مزيجاً من الاعتراف والتأمل، ومن السرد السياسي والوجداني، بأسلوب حرّ نابض بالحياة، تتقاطع فيها الذات بالحدث، والخاص بالعام، لتقدم نصاً غنياً بالمعنى والدلالة، يُلامس القارئ ويثير تأملاته، ويؤكد أن السيرة حين تُكتب بصدق، تتحول إلى شهادة إنسانية وتاريخية مؤثرة.

[email protected]

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: