خالد سمير يكتب: “المُغيّرون”… مهندسو المستقبل وسط ركام التقليد

خالد سمير يكتب: “المُغيّرون”… مهندسو المستقبل وسط ركام التقليد

في زمنٍ يتغيّر فيه العالم بوتيرةٍ مذهلة، هناك صنفان من البشر: من يتكيّف مع الواقع كما هو، ومن يرى ما يمكن أن يكون، فينهض ليصنعه. هؤلاء الأخيرون هم “المُغيّرون” – لا يجمّلون الحاضر، بل يعيدون اختراعه من الجذور. لا يتبعون الاتجاهات، بل يصنعونها. هم قادة التحوّل العاصف، الذين يمهّدون الطريق لنظام جديد وسط ركام التقليد.

في قلب كل شركة تطمح للخلود، أو على الأقل للبقاء لمئة عام، يبرز سؤال جوهري: كيف ننتقل من واقعٍ تقليدي إلى مستقبلٍ مبتكر؟

الإجابة ليست في الترقيع التدريجي، بل في الهدم الواعي والبناء الجريء. هنا يظهر دور “المغيّرين” ليس كترف فكري، بل كضرورة وجودية، فهم وحدهم من يشعل شرارة التحول، ويحوّل الارتباك إلى نظام أكثر مرونة وتنافسية.

لماذا تسقط الشركات عند غياب المُغيّرين؟

في غياب هؤلاء، تبقى الشركات حبيسة الماضي، فتصطدم بالمآزق التالية:

• تكلّس إداري: مؤسسات تُدار بنفس الأدوات والعقليات منذ عقود.

• تبعية اقتصادية: استيراد دائم للحلول بدل ابتكارها.

• نزيف كفاءات: فرار العقول المميزة نحو بيئات تثمّن الإبداع.

• جمود قطاعي: التحديات تتكرّر، والجرأة على الحل تغيب.

المُغيّرون… ضد قانون التآكل البطيء

كل مؤسسة، بطبيعتها، تتجه نحو الجمود والانغلاق. المُغيّرون هم من يوقفون التآكل البيروقراطي. هم طاقة الحياة التي تُجدد الدماء في شرايين الشركات.

هم من يواجهون إعصار التغيير العالمي بشعار واضح: “تغيّر أو إنقرض” (Disrupt or Die).

هم من يسدّون فجوة الطموح والواقع باقتحام السقوف الزجاجية للنمو (كما فعلت “شركة فوري Fawry” بضمّ الملايين إلى الاقتصاد الرسمي).

وهم من يرون في الأزمات فرصًا استثمارية كما فعلت “SOKNA” في قطاع قديم و مهمل لكنه حيوي.

لماذا لا يستطيع أحد سواهم قيادة التغيير؟ لأنهم يتصفون بصفات خاصة ، أولآ الرؤية التي تتجاوز الأفق . طلعت حرب لم يرَ بنكًا فقط، بل رأى مشروع استقلال وطني متكامل. هشام طلعت مصطفى لم يرَ عقارات، بل رأى “منظومات حياة. ثانيآ “الشجاعة لمواجهة المقدّس” العربي لم يرضَ بأن يكون وكيلاً، بل اقتحم التصنيع والتصدير. د. عاكف المغربي ود. علي المفتي صدّرا التميز الطبي في تخصص العيون لمجموعة من البشر تتجاوز ال 800 مليون مواطن.

ثالثآ” التفكير المنظومي المتكامل” عائلة السويدي قامت ببناء منظومة طاقة متكاملة. الدكتور طارق محرم والدكتورعادل طلعت حوّلا الطب إلى نماذج تمويلية مستدامة.

رابعآ” الاستعداد لتحمّل “ثمن الارتباك” هم قادة “الارتباك المدروس” الذي يُزعج الراكدين، لكنه الثمن الحتمي لنظامٍ أفضل (كمشقة التحول الرقمي بقيادة “فوري”).

خامسآ” النزعة التوسّعية التي لا تعرف الحدود” مجموعة تيمور (EFG Hermes) “صدّرت الكفاءات المصرية” عالميًا. أحمد جاب الله (SOKNA) صمم نموذجًا للتوسع العالمي.

السؤال الأساسي هو من يقود التغيير “الأفراد أم المؤسسات” ؟

المؤسسات ليست مصدر الشرارة. الأفراد هم من يبدأون. والمؤسسات الذكية هي من تهيئ لهم البيئة والشرعية من خلال بناء خارطة طريق لاحتضان “المُغيّرين” داخل الشركات فلا يكفي الحديث عن الابتكار والتجديد داخل المؤسسات، ما لم تُصمم بيئة حقيقية تحتضن المُغيّرين، وتشجّعهم على تحدي المألوف وصناعة الجديد. وأحب أن أوضح بعض من تلك الملامح لبناء هذه البيئة:

أولآ ثقافة الانفتاح لا الولاء الأعمى الشركات التي تصنع التغيير “تكافئ الجرأة وتقدّر من يطرح الأسئلة الصعبة”، حتى وإن خالف التوجه السائد. “الانضباط مهم” ، لكن التبعية العمياء تقتل فرص النمو.

ثانيآ قبول الاختلاف كشرط للإبداع التنوع ليس شعارًا، بل أداة أساسية لتوسيع زاوية الرؤية. الفرق متعددة الخلفيات “الأكاديمية والثقافية والمهنية” هي التربة الأكثر خصوبة للأفكار غير المسبوقة.

ثالثآ بيئة إستماع لا تلقين المبادرون يحتاجون إلى من يسمعهم، لا من يلقّنهم. وجود آليات مؤسسية لتمكين الأفكار، من لحظة طرحها إلى اختبارها وتنفيذها، هو ما يحوّل الحماس الفردي إلى تغيير مؤسسي فعّال.

رابعآ منظومة تعلم حقيقية لا مكان للتغيير في بيئة تقيس النجاح بكمّ الحفظ أو الحضور الشكلي. المطلوب منظومة تعتمد “التُقييم على أساس الأثر”، وتشجع على التجريب، وتعتبر الفشل خطوة في طريق التحسين. المُغيّرون لا يُصنعون داخل الصناديق المغلقة. هم نتاج بيئة تسمح بالاختلاف، وتُكافئ الجرأة، وتُؤمن بأن التفكير الحر هو أصل كل تقدم. الشركات التي تفهم ذلك… لا تكتفي بالمنافسة، بل تعيد تشكيل السوق بأكمله.

أمثلة حيّة على “المُغيّرين”: قادة كسر القواعد وإعادة تشكيل الواقع المصري

في عالمٍ يُكافئ الالتزام بالنمط، يخرج هؤلاء ليكسروا القالب. لا يكتفون بتجويد الموجود، بل يبتكرون مسارات جديدة، ويزرعون بذور المستقبل وسط ركام المألوف.

وفي مصر، تزخر الساحة بأمثلة واقعية حيّة لمُغيّرين أعادوا تعريف قطاعاتهم، وانطلقوا من قلب التحديات لينسجوا تجارب تُدرّس.

طلعت حرب: الاقتصاد بوصفه مشروعًا وطنيًا للتحرّر

لا يمكن الحديث عن المُغيّرين في مصر دون الوقوف عند رائدهم الأول، طلعت حرب. لم يرَ في بنك مصر مجرّد مؤسسة مالية، بل رآه كحجر أساس لاستقلال اقتصادي حقيقي يُكمّل الاستقلال السياسي. أنشأ عشرات الشركات الوطنية في مجالات الصناعة، النقل، السينما، والتأمين، واضعًا نواة اقتصاد مصري مكتفٍ بذاته.

لم يكن رجل أعمال تقليديًا، بل كان مهندسًا لفكرة “الاقتصاد كتحرر وطني”، وسبّاقًا لرؤية منظومية شاملة لا تزال تُلهم أجيالًا بعده.

أشرف صبري: فوري Fawry… من فكرة إلى بنية تحتية رقمية شاملة

عندما أطلق أشرف صبري منصّة “فوري”، لم يكن يسعى فقط إلى تسهيل عمليات الدفع، بل كان يؤسس لمنظومة رقمية تحتية تُمكّن ملايين المصريين من دخول الاقتصاد الرسمي. تحوّلت “فوري” من مجرد منصة خدمات مالية إلى قناة لدمج الفئات المهمّشة ماليًا، وإعادة توزيع القوة الشرائية، وتسريع التحول الرقمي في قطاعات متعددة، من التعليم إلى التأمين إلى التجارة. إنه نموذج مُلهِم لكيف يصنع المُغيّر اقتصادًا جديدًا يبدأ من حاجات صغيرة وينتهي بنموذج وطني واسع التأثير.

د. عاكف المغربي ود. علي المفتي: تصدير الطب المصري بنموذج تخصصي إقليمي

في مجال الرعاية الصحية، قدّم كل من د. عاكف المغربي ود. علي المفتي نموذجًا نوعيًا في مجال العيون، لا يقوم فقط على التميّز السريري، بل على مزيجٍ مدروس من الحوكمة الطبية، والإدارة الحديثة، والانفتاح الإقليمي. نقلوا الخبرة المصرية إلى أسواق تمتد من الخليج إلى وسط إفريقيا، ليصبح الطب التخصصي المصري للعيون سلعة تصديرية، لا خدمة محلية فقط. استثمروا في الكوادربعنف ، وخلقوا قيمة مضافة قابلة للتوسّع. هنا، لا يُعاد إنتاج نموذج تقليدي، بل يُبنى نموذج مصري متجدد وقابل للتدويل.

العربي جروب: من التوزيع إلى الصناعة والتصدير

بدأت مجموعة العربي كوكيل لأجهزة كهربائية، لكن رؤية “المُغيِّر” قادت العائلة لتحوّل المجموعة إلى كيان صناعي عملاق. استثمروا في التصنيع المحلي، وشراكات دولية استراتيجية، ونقل التكنولوجيا، مما حوّلهم من مستهلكين للتقنية إلى صانعين ومُصدّرين لها. لم تكتفِ المجموعة بتصنيع المنتجات، بل صاغت نموذجًا للاستدامة الصناعية التي تمتد عبر الأجيال. وهذا التحوّل الجذري من التوزيع إلى الإنتاج هو أحد أعظم إنجازات الاقتصاد المصري الحديث.

هشام طلعت مصطفى: التطوير العقاري بوصفه “منظومة حياة”

أعاد هشام طلعت مصطفى تعريف قطاع العقارات في مصر. لم يبنِ مدنًا فقط، بل أسّس “منظومات معيشية ذكية” تتكامل فيها الصحة، والتعليم، والترفيه، والبنية التحتية الرقمية. مدينة مثل “مدينتي” ليست مشروعًا سكنيًا تقليديًا، بل رؤية مكتملة لمجتمع مندمج اقتصاديًا وإنسانيًا، يُدار بمنطق الحوكمة ويتّسق مع متطلبات الجيل القادم. لقد حرّك الصناعة من منظور بناء الوحدات إلى بناء أنماط حياة مستدامة.

السويدي إليكتريك: الطاقة كأداة للنفوذ الصناعي الإقليمي

تحوّلت مجموعة السويدي إليكتريك من شركة محلية لصناعة الكابلات إلى منظومة إقليمية للطاقة والبنية التحتية، تمتد مشاريعها من مصر إلى إفريقيا والخليج. المُغيّر هنا ليس في حجم التوسع فقط، بل في الرؤية المتكاملة لبناء سلاسل قيمة صناعية كاملة، بدءًا من تصنيع المكوّنات وانتهاءً بتنفيذ مشاريع الطاقة العملاقة. المجموعة تُجسد فكرة “الصناعة كقوة جيوسياسية”، وهي من الحالات النادرة التي دمجت بين التصنيع المحلي والتوسّع العالمي بحرفية عالية.

مجموعة تيمور – EFG Hermes: من القاهرة إلى الأسواق العالمية

استطاع تيمور و حسن هيكل ورفاقه في مجموعة EFG Hermes أن ينقلوا شركة استثمار مصرية لتصبح لاعبًا إقليميًا فاعلًا في أسواق المال العربية والإفريقية والآسيوية. كانت EFG Hermes أول مؤسسة مصرية تدخل أسواقًا مثل كينيا وباكستان ونيجيريا، وخرّجت نخبة من الكفاءات المالية التي أصبحت قيادية في مؤسسات مالية عالمية. هذا الانتقال من السوق المحلي إلى التأثير العالمي لم يكن عشوائيًا، بل نتيجة رؤية مدروسة لمفهوم “رأس المال المعرفي كمحرّك للنمو العابر للحدود”.

أحمد جاب الله – SOKNA: الابتكار في أصعب القطاعات وأكثرها حساسية

في قطاع ظل لفترات طويلة تقليديًا ومهمّشًا – خدمات ما بعد الوفاة – أسس أحمد جاب الله شركة SOKNA، التي مزجت التكنولوجيا بالرحمة، والتنظيم بالإتاحة. نجحت الشركة في بناء نموذج خدمي متكامل يراعي الكرامة، ويقدم خدمات تُضاهي المعايير العالمية، مع قابلية عالية للتوسع إقليميًا. المُغيّر هنا ليس فقط في الخدمة، بل في كسر حاجز الصمت المجتمعي حول الموت، وتحويله إلى مساحة للتعاطف المنظّم والإدارة الفعالة.

د. طارق محرم & د. عادل سمير طلعت: من المبادرات الفردية إلى نماذج مؤسسية مستدامة عابرة للأجيال

يمثل كل من د. طارق محرم ود. عادل سمير طلعت نموذجًا نادرًا لقيادات طبية استطاعت تحويل المبادرات الفردية العائلية إلى مؤسسات صحية راسخة، قائمة على الحوكمة، والاستدامة، والشراكات العالمية.

نجح د. طارق محرم في قيادة سلسلة مراكز “النيل” لتصبح من أبرز اللاعبين في سوق الأشعة في مصر، عبر استراتيجية توسّع مدروسة وذات طابع تكاملي. لم يكتفِ بالتشغيل الطبي فحسب، بل طوّر من خلال منصة “Elevate” نموذجًا متقدمًا للشراكة بين القطاعين العام والخاص، يجمع بين التمويل الذكي، والتشغيل المحترف، والرؤية المجتمعية، ليصبح بذلك أحد أوائل من طبّقوا منظومة التحول المؤسسي المدعوم بشركاء استراتيجيين مصرين ودوليين في هذا القطاع.

أما د. عادل سمير طلعت، فقد كرّس سنوات طويلة لبناء مؤسسة طبية متكاملة، قوامها المهنية الصارمة، والحوكمة والرؤية الممتدة عبر الأجيال. رسّخ مبدأ تعاقب القيادة، ووضع هيكلًا تنظيميًا قادرًا على الصمود والنمو بمعزل عن الأشخاص. وساهم من خلال شراكات مدروسة مع مؤسسات عالمية في إرساء نموذج مصري رائد للرعاية الصحية التخصصية، يُقدّر فيه العلم، وتُحترم فيه المعايير العالمية، وتُستثمر فيه الكوادر الوطنية.

يُجسّد كلاهما فلسفة “المُغيِّر” الحقيقي، الذي لا يكتفي بإدارة منشأة ناجحة، بل يعيد تعريف قواعد اللعبة، ويؤسس لمنظومات صحية قابلة للنمو والتكرار والتصدير. يمثلان مدرسة متكاملة في تحول الإستثمار العائلي إلي العمل المؤسسي القائم على الاستدامة، وتعاقب الأجيال، والانفتاح الذكي على الشراكات العالمية، وهو ما يفتح آفاقًا جديدة للقطاع الصحي المصري نحو المستقبل.

الخلاصة المصيرية المُغيِّرون (Disruptors) ليسوا كماليات؛ هم الدم الذي يضخّ الحياة في شرايين المجتمعات الطموحة. إنهم القوة الدافعة الوحيدة القادرة على كسر قيود الماضي، مستعدين لتحمّل عبء “الارتباك المدروس” من أجل التغيير الحقيقي. رأس المال الحقيقي لأي أمة هو قدرتها على اكتشاف هؤلاء واحتضان رؤيتهم. استثمارنا فيهم هو استثمار في بقائنا وريادتنا. فبدونهم، نُحكم على أنفسنا بالتّلاشي. وبهم، نَصْنعُ المُستقبل.

المُغيّرون هم رأسمالنا الوطني الحقيقي. لا يحتاجون فقط إلى موارد، بل إلى ثقافة تحترم الاختلاف، وتصبر على الفوضى التي تسبق التحول. كل مؤسسة لا تحتضنهم، تهرم وتختفي بأسرع مما نتخيل. وكل دولة تهمّشهم، تتأخر وقد تختفي ايضا . أما من يراهم ويحتضنهم، فيقود المستقبل.

بقلم: د. خالد سمير

وكيل غرفة مقدمي الخدمات الصحية – اتحاد الصناعات المصرية

العضو المنتدب لمراكز النيل للأشعة والمعامل والقسطرة