كانت للمتنبي القدرة على رؤية العالم بعينٍ لم تعهدها العرب

كانت للمتنبي القدرة على رؤية العالم بعينٍ لم تعهدها العرب

أولى الأكاديمي والناقد الإماراتي ورئيس مركز أبوظبي للغة العربية، الدكتور علي بن تميم، اهتماماً كبيراً بالشاعر العباسي أبي الطيب المتنبي، وقدَّم رؤى وإسهامات ملحوظة في دراسة شعره وسيرته. في كتابه «عيون العجائب: في ما أورده أبو الطيب من اختراعات وغرائب»، الصادر حديثاً عن مركز أبوظبي للغة العربية، يركز على «الاختراعات» البلاغية والفكرية في شعر المتنبي، مستوحياً عنوان الكتاب من بيت المتنبي: «إِلَيّ لَعَمري قَصدُ كُلِّ عَجيبَةٍ كَأَنّي عَجيبٌ في عُيونِ العَجائِبِ». كما أن لعلي بن تميم بالإضافة إلى ذلك برنامجاً تلفزيونياً بعنوان «من طيبات أبي الطيب».

يختار الدكتور بن تميم في هذا الكتاب أربعين بيتاً شعرياً للمتنبي يرى أنها تجسد «الاختراعات» وتكشف عن عبقريته، محاولاً استخراج «لآلئ بقيت دفينة لقرون» بأسلوب مبتعد عن التكرار والحواشي التقليدية.

في حوارنا معه، يشرح أبعاد ما أنجزه في كتابه الجديد:

* ما هي أهمية أبي الطيب المتنبي ومكانته التي تتجدد؟

– يُمكن القولُ، بادئَ ذي بدء، إنّ ولادةَ أبي الطيّب المتنبّي كانت حدثاً فريداً، كأنّما جاءت لتقطعَ ذِكرَ من سبقَه وتطويَ صفحةَ الشِّعرِ المعهود. بزغَ نجمُهُ في زمنٍ خَفتت فيهِ قاماتٌ شِعريّةٌ كبيرة، فبدا كأنّه الوحيدُ في الميدان. حتّى أبو فراس الحمداني، الشاعرُ الفارس، كانَ يصغُرُه سنّاً ويختلفُ عنه أفقاً. وإن وُجِدَ شُعراءٌ في ذاكَ العصر، فإنّ هِمَمَهُم لم تتّجِه صوبَ القضايا العربيّة الكُبرى، ولم تهتزّ أقلامُهُم دفاعاً عن ثغور الأمّةِ المهدّدة، كما فعلَ هو بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ وقلبٍ جسور. لقد جاءَ المتنبّي ليُعيدَ تشكيلَ وعي الشِّعرِ ذاتِه، واقفاً على إرثٍ عظيمٍ امتدّ من امرئ القيس حتّى البحتريّ وأبي نواس، مُستلهماً حتّى من تجاربَ صوفيّةٍ كالحلّاج، لكنّه لم يكن يوماً مجرّدَ وريث. كانَ عليه أن يطبعَ بصمتَهُ الخاصّة، أن يُضيفَ ما لم يُضَف، أن «يخترعَ» شِعرَهُ الخاصّ. ولأنّ أبا الطيّب كانَ نسيجَ وَحدِهِ، متنوّعَ المشاربِ، ذا نزعةٍ فلسفيّةٍ عميقةٍ، وبلاغةٍ مُحكَمةٍ، وشاعريّةٍ أصيلةٍ؛ فقد كان لزاماً عليه أن يكونَ «مُخترِعاً» في كلِّ مَيدانٍ طرقَه. ومن هنا تكمن أهميته.

* ما هو هذا «الاختراع» الذي وضعته عنوناً لكتابك الجديد عن المتنبي؟

– إنّه القدرةُ على رؤيةِ العالمِ بعينٍ لم تعهدها العرب، والتعبيرِ عنه بلغةٍ تتجاوزُ المألوف. نجده في القديمِ راسخاً كالجبال، وفي الحديثِ مُحلّقاً كالأفكارِ الجديدة. إنّه في قمّةِ «الاختراع»؛ اختراعِ الصورِ التي لم تُسبَق، واختراعِ المعاني التي لم تُطرَق، واختراعِ البلاغةِ التي تُدهِشُ العقول. يقولُ وهو يُخاطبُ محبوبتَهُ (أو ربّما رمزاً أسمى) في دُجى الليل:

أَمِنَ اِزدَيارَكِ في الدُجى الرُقَباءُ

إِذ حَيثُ أَنتِ مِنَ الظَلامِ ضِياءُ

هُنا، يتجاوزُ الصورةَ التقليديّة ليجعلَ من المحبوبِ ضوءاً يَشُقُّ الظلامَ ذاتَه، فيختفي الرُقباءُ لا خوفاً، بل لأنّ النورَ قد عمَّ فصارَ اللقاءُ جَهراً. هذا هو اختراعُ الصورةِ والمعنى. كما لم يتوقّف اختراعُهُ عندَ الصورةِ، بل تعدّاهُ إلى البلاغةِ والبيانِ والفلسفةِ واللغة. لقد أحصى الباحثونَ لهُ ما يقرُبُ من أربعين حالةً من حالاتِ الابتكارِ البيانيّ والبلاغيّ. حتّى أنّ تأثيرهُ امتدَّ ليشملَ عوالمَ أخرى، فيُقالُ إنّ ابنَ خلدون نفسَهُ، في مقدّمتهِ، لم يكن بعيداً عن أثرِ فكرِ المتنبّي ونظرتهِ للتاريخِ والدول. وإنّ روحَ قصيدةِ «البُردة» للبوصيريّ، على بُعدِها الدينيّ، قد حملت شيئاً من قوّةِ البيانِ وسموِّ الروحِ التي بثّها المتنبّي في الشِّعرِ العربيّ، وكأنّ البوصيريّ قد استلهمَ من تلك القدرةِ الفذّةِ على الارتقاء بالكلمة.

* إذن، هذا الاختراع أو الابتكار لم يكن مقتصراً على جانب واحد في شعر المتنبي، بل شمل العملية الإبداعية برمتها؟

– تماماً. إنّ فهمَ المتنبّي يقتضي إدراكَ هذهِ الحساسيّةِ الفائقةِ تجاهَ «الاختراع» و«الابتكار». لم يكن أبو الطيّب يعتمدُ على التُراثِ مُتّكأً أو قالباً جاهزاً، بل كانَ ينظُرُ إليه بصفته نقطةَ انطلاقٍ لخلقِ صورةٍ مُختلفة، صورةٌ تقتربُ من روحيّةِ الفنّانِ الذي يرى ما لا يراهُ الآخرون. إنّ المفارقةَ الحقيقيّةَ تكمنُ هُنا: كيف نتعاملُ مع القاماتِ الكُبرى؟ هل نستنسخُها فنقتُلُ روحَها؟ أم نفهمُ سرَّ إبداعِها فنُبدعَ على منوالِها دون تقليد؟ لقد اختارَ المتنبّي طريقَ الابتكار، فلم يستنسخ من سبقَهُ، بل صهرَ تجاربَهُم في بوتقتِهِ الخاصّة ليُخرجَ ذهباً جديداً. فالاختراعُ يسري في دمِ شِعرِ المتنبّي، في صورهِ ومضامينه. نجدهُ في فخرِهِ الذي يتجاوزُ حدودَ الذاتِ ليُعانقَ المطلق:

أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي

وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ

الخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني

وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ

هذا ليسَ مجرّدَ فخرٍ، بل هو إعلانٌ عن قوّةِ الكلمةِ وقدرتها على تجاوزِ الحواسِّ والحدود. ونجدهُ في حكمتِهِ التي تستخلصُ جوهرَ الحياةِ بكلماتٍ قليلة:

عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ

وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها

وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

هذهِ الأبياتُ ليست مجرّدَ حِكَمٍ، بل هي قانونٌ في فهمِ النفسِ البشريّةِ وطبائعِ الأمور. وهذا هو جوهرُ اختراعِهِ: أن يُلخّصَ نظريّةً كاملةً في الشِّعرِ والحياةِ، وأن يربطَ ذلك كلّهُ بعلاقتِهِ المعقّدةِ بالسلطةِ، كما تجلّت في حضرةِ سيفِ الدولة الحمدانيّ، حيثُ امتزجَ المدحُ بالفخرِ، والنُصحُ بالتحدّي.

* هل يمكن تحديد «عيون العجائب» التي وضعتها عنوناً لكتابك؟ وهل تعتقد أن عظمته شاعراً تأتي من كونه ظل حداثياً ومعاصراً لنا؟

– نعم. أبو الطيّب المتنبّي ليسَ مجرّدَ شاعرٍ عظيم، بل هو «ظاهرةٌ» ثقافيّةٌ وفنيّة. إنّهُ «المخترعُ» الذي لم يكفّ عن ابتكارِ الجديد، والذي تركَ لنا إرثاً هائلاً لا يزالُ يُلهمُنا ويُدهشُنا، ويُعلّمنا أنّ الطريقَ إلى الخلودِ لا تمرُّ عبرَ الاستنساخ، بل عبرَ شجاعةِ الابتكارِ وقوّةِ الإبداعِ الأصيل. ويمكنني القول إنّ وهجَ المتنبّي لم ينطفئ برحيله، بل امتدَّ ليُضيءَ دروبَ الشُعراءِ من بعده، حتّى في أكثرِ لحظاتِهم حميميّةً وإنسانيّة. عندما يصدحُ صوتُ محمود درويش في العصرِ الحديث، مُعبّراً عن لوعةِ الفقدِ وحنينِ الابن: «أحنُّ إلى خُبزِ أمّي»، فإنّ صدى هذا الحنينِ العميقِ يتردّدُ في جنباتِ قصيدةٍ خالدةٍ للمتنبّي، كتبها في رثاءِ جدته، حيثُ يتجاوزُ الحنينُ الشخصيَّ ليُعانقَ رمزيةَ الأصولِ والبدايات:

أَحِنُّ إِلى الكَأسِ الَّتي شَرِبَت بِها

وَأَهوى لِمَثواها التُرابَ وَما ضَمّا

إنّها اللوعة ذاتُها، والشوقِ ذاته إلى ماضٍ لا يعود، وإلى الجذورِ التي شكّلتنا. هي قدرةُ الشِّعرِ الخالدِ على لمسِ أوتارِ الروحِ الإنسانيّةِ المشتركة، وهي قدرةُ المتنبّي على صياغةِ هذه المشاعرِ في قوالبَ تبقى حيّةً عبرَ العصور. ولعلّنا حين نتأمّلُ أوجاعنا، كما فعلَ المتنبّي في شِعرهِ الذي لم يخلُ من مرارةِ التجربة، نُدركُ أنّ «أسوأَ ما حدثَ لنا كانَ من الناس، وأجملَ ما حدثَ كانَ من الله… وما زلنا نقتربُ من الناسِ ونبتعدُ عن الله!». إنّها حكمةٌ تُشبهُ حِكَمَ أبي الطيّب، تلك التي جعلتهُ «الشاعرَ الحكيم».

* هل تعتقد أن الكثير من الشعراء أو القادة في عصرنا أخذوا من حكمة المتنبي واستلهموا من فكره؟

– بالفعل، لم يكن تأثيرُ المتنبّي محصوراً في عالمِ الشِّعرِ والأدب، بل تجاوزهُ ليُؤثّرَ في قادةٍ كبارٍ أدركوا قيمةَ الكلمةِ وعُمقَ الحكمة. فقد كانَ المغفورُ لهُ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّبَ اللهُ ثراه، من أشدِّ المُعجبينَ بأبي الطيّب المتنبّي، مُعجباً باختراعاتِهِ وبلاغتِهِ وحكمتِهِ الخالدة. كان الشيخ زايد، بحكمتِهِ وفراستِهِ، يرى في المتنبّي «الشاعرَ الحكيم»، ويستلهمُ من وصفِهِ للخيلِ معانيَ الشجاعةِ والوفاءِ والأنفةِ والخصالِ النبيلة، ويرى فيهِ رمزاً للاعتزازِ بالهويّةِ العربيّةِ ولغتِها البليغة. لقد كانَ الشيخ زايد من القادةِ القلائلِ الذين احتفوا بشِعريّةِ أبي الطيّب وقيمِهِ ومُثُلِهِ العُليا، وكانت أشعارُهُ تُلازمُهُ، جنباً إلى جنبٍ مع إعجابِهِ بشُعراءَ كبارٍ آخرين كالماجدي بن ظاهر. ولعلّ هذا الاهتمامَ العميقَ من قائدٍ بحجمِ الشيخ زايد كانَ من الحوافزِ التي دفعتنا للكتابةِ عن هذا الشاعرِ الفذّ.

*هل تعتقد أن بيئةُ الاختراع تأتي من علاقته بسيفُ الدولة الذي كان بمثابة المُتلقّي العظيم لشعره والتفاعل معه؟

– أجل، وجدَ أبو الطيب بلاطاً عظيماً ومُتلقّياً أعظمَ هو سيفُ الدولة الحمدانيّ. في خضمِّ صراعاتِ ذاكَ العصرِ مع البويهيين والإخشيديين، كانَ ذلك المكان منارةً للعلمِ والأدب. ولم يكن سيفُ الدولة مجرّدَ حاكمٍ، بل كانَ عالماً بالشِّعرِ، ناقداً بصيراً، يُدركُ تماماً قوّةَ أبي الطيّب ومكامنَ اختراعاتِهِ. هذا الإدراكُ من قِبلِ المُتلقّي الأوّل، سيفِ الدولة، كانَ بمثابةِ الوقودِ الذي غذّى جذوةَ الاختراعِ لدى المتنبّي نفسِه. فالشاعرُ حينَ يعلمُ أنّهُ أمامَ مُتلقٍّ يفهمُ أسرارَ الشِّعر، ويميزُ بينَ التقليدِ والاتّباع، وبينَ الإبداعِ والتكرار، فإنّهُ يرتفعُ بهمّتِهِ ويُحلّقُ في سماواتٍ أعلى. ولم يكتفِ سيفُ الدولة بذلك، بل فتحَ للمتنبّي نوافذَ على الثقافاتِ الأخرى – اليونانيّة والفارسيّة والروميّة – ليسَ ليُقلّدَها أو يستنسخَها، بل لتكونَ حافزاً لهُ على الابتكارِ بمنظورٍ عربيٍّ أصيل، ليُثبتَ أنّ العربيّةَ قادرةٌ على استيعابِ العالمِ والتعبيرِ عنه بقوّةٍ وجمالٍ لا يُضاهيان. وبهذا، خالفَ المتنبّي سلالةً من الشُعراءِ الذين انشغلوا بالصغائرِ أو بقوا أسرى التقليد، بينما كانَ هو يتطلّعُ إلى أن تكونَ علاقتُهُ بأسلافِهِ علاقةَ حوارٍ وتجاوز، علاقةَ اختراعٍ وابتكار، لا علاقةَ ترديدٍ واتّباع.

* هناك مسألة مثيرة عند أبي الطيب المتنبي ألا وهي موقفه من المرأة… هل يمكن توضيح ذلك؟

– المعروف أن المتنبي حدّد في قصيدة مدح فيها كافور الإخشيدي سنة 346 هجرية، مواصفات المرأة الأجمل، ومنتقداً في الوقت نفسه، ولع النساء في عصره، بتصنّع الجَمال وإبراز مفاتن صُنِعت صناعة ولم تكن على طبيعته، ذلك يعني أنه لم يكن تقليديّاً في نظرتهِ للمرأة. فعندما نتأمّلُ قصائدَهُ، خاصّةً رثاءَهُ لجدّته التي رعته مثل أمه أو لخولة أختِ سيف الدولة الكبرى، نجدُ صورةً للمرأةِ تتجاوزُ المألوفَ في شِعرِ عصره. لم تكن المرأةُ عنده مجرّدَ موضوعٍ للغزلِ أو البكاءِ على الأطلال، بل أصبحت رمزاً ومصدراً للثقافةِ والقوّةِ والمعرفةِ التاريخيّة. لقد كانَ من أوائلِ الشُعراءِ الذين أدركوا – ربّما بحدسِ الفنّان – أهميّةَ دورِ المرأةِ وقدرتها، فمنحها في شِعرهِ مكانةً تليقُ بها، وكأنّهُ كانَ يستشرفُ فكرةَ «تمكينِ المرأة» بلغةِ الشِّعرِ قبلَ قرون.

* في الأخير، نسألك عن الفنان العراقي محمود شوبر الذي زيّنت لوحاته كتابك؟

– لم يكن الفنُّ التشكيليُّ ببعيد، فها هو الفنّانُ الكبيرُ محمود شوبر يجدُ في شِعرِ المتنبّي معيناً لا ينضبُ، فيُترجمُ اختراعاتِ الشاعرِ اللغويّةَ والبصريّةَ إلى اختراعاتٍ تشكيليّةٍ على لوحاتِه.