انسحاب أمريكا يفتح الباب أمام أوروبا لتزعم المشهد العالمي – newnews4

انسحاب أمريكا يفتح الباب أمام أوروبا لتزعم المشهد العالمي – newnews4

الاتحاد الأوروبي على أعتاب فرصة لتعويض تراجع واشنطن بشرط وحدة الصف والانفتاح المنظم

 

حل أزمة نقص العمالة في القارة يمر عبر إصلاحات هجرة واقعية تشمل المهرة وغير المهرة

الولا

تمر الولايات المتحدة الأمريكية بمنعطف حاسم، إذ تقوم، لأسباب سيتجادل حولها المؤرخون مستقبلاً وقد تثير ذهول كثيرين، بتقويض الأسس التي قامت عليها قوتها، من انفتاحها ومؤسساتها، إلى انخراطها الفعال في العالم.

بدأ هذا التحول مع الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب، والتي تم تنفيذها بشكل فوضوي ومتقلب سعياً لتحقيق أهداف غير واضحة.

وقد أدت الرسوم، إلى ارتفاع كلفة الواردات وتعطيل حركة التجارة العالمية، فضلاً عن تقويض مصداقية الولايات المتحدة كشريك اقتصادي موثوق، ما أثار تساؤلات حول مستقبل الدولار كعملة احتياطية عالمية.

ثم جاءت الهجمات على الجامعات الأمريكية، التي لطالما كانت حجر الزاوية في قيادة البلاد العلمية والتكنولوجية.

فقد تراجعت التمويلات المخصصة للبحث العلمي، وارتفعت الضرائب على الهبات الجامعية، فيما تم تشديد سياسات التأشيرات، ما أضعف قدرة هذه المؤسسات على جذب الكفاءات العالمية والحفاظ عليها.

وكانت النتيجة خسارة تتعدى حدود الأكاديمية، لتطال الابتكار الأمريكي وبالتالي الاقتصاد بأكمله، حسب ما نقله موقع “بروجكت سنديكيت”.

في الوقت نفسه، يتعرض القطاع الأمريكي الأكثر ديناميكية، وهو قطاع التكنولوجيا، لضغوط سياسية وتنظيمية.

وتخضع شركات “أبل” و”ألفابت”، المالكة لـ”جوجل” و”ميتا بلاتفورمز” لتدقيق متزايد في الداخل، بينما يستفيد منافسوها في الخارج من سياسات صناعية داعمة.

وفي حين تستعد معظم دول العالم للمنافسة في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، تتبنى الولايات المتحدة سياسات تنتمي إلى الماضي، مثل إحياء الصناعات المحلية وتخفيف القيود على عمالة الأطفال.

يكمن وراء هذه التحولات في السياسة قراءة خاطئة جوهرياً للفوائد غير المباشرة التي لطالما قدمتها القيادة الأمريكية للعالم.

فصحيح أن تقدم الولايات المتحدة في مجالات العلم والأمن والابتكار أفاد دولاً أخرى، لكن إدارة ترامب نظرت إلى هذا الأمر باعتباره شكلاً من أشكال الاستغلال، لا دليلاً على القوة.

فجاء الرد في صورة انسحاب، حتى لو أدى ذلك إلى إضعاف المؤسسات التي مكنت الولايات المتحدة من لعب دورها القيادي عالمياً.

هذا الانسحاب لا يحد من صعود الدول الأخرى، بل يفسح المجال أمامها للتقدم.

ويتجلى ذلك بوضوح في أوروبا القارية، حيث بدأت السياسات الأمريكية الانعزالية تُنظر إليها كفرصة لتعويض الفجوة.

فرغم التحديات الاقتصادية المزمنة، من تباطؤ نمو الإنتاجية وشيخوخة السكان، والفرص الضائعة في التحول الرقمي، يرى صُناع القرار الأوروبيون أن الوقت قد حان للحاق بالركب.

وقد بعث تطوران أخيران الأمل في نفوسهم.

أولهما، تخفيف ألمانيا لما يُعرف بـ”كابح الديون” الدستوري، ما أتاح هامشاً مالياً للاستثمار العام الضروري.

وثانيهما، تنامي التوافق السياسي على ضرورة أن يتصرف الأوروبيون بوحدة وهدف مشترك في ظل حالة التجزؤ الجيوسياسي والاقتصادي الراهنة.

غير أن اغتنام الفرصة يتطلب ما هو أكثر من التفاؤل، فثمة أربعة شروط أساسية لا بد من توافرها كي تتمكن أوروبا من ملء الفراغ الناتج عن انكفاء الولايات المتحدة.

أولاً، على الاتحاد الأوروبي أن يتجنب استراتيجية “فرق تسد” التي تتبعها إدارة ترامب، وذلك بعدم الدخول في مفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة من قبل أي دولة عضو.

وحدها الجبهة الموحدة يمكن أن تتيح للاتحاد الاستفادة من قوته السوقية والدفاع عن مصالحه.

ثانياً، ينبغي لأوروبا أن تتبنى الانفتاح، لا سيما في ما يخص المواهب والتجارة.

فمع ازدياد العداء الأمريكي تجاه الطلاب الدوليين والعمالة الأجنبية، يمكن لأوروبا أن تستفيد من موجة “نزيف العقول” الأمريكية المقبلة من خلال استقطاب المهاجرين المهرة والباحثين.

كما أن تطوير تقنيات جديدة يتطلب معادن نادرة وموارد أولية لا تتوفر في القارة حالياً، ما يفرض ضرورة الحفاظ على علاقات تجارية بنّاءة مع دول أخرى، وعلى رأسها الصين، ويتطلب ذلك إرادة سياسية، وإدراكاً بأن الانفتاح، إذا أُدير جيداً، يمثل مصدر قوة.

ثالثاً، تحتاج أوروبا إلى إصلاحات تنظيمية.

ورغم أن معاييرها في مجالات سلامة الغذاء، وحماية البيئة، وحقوق العمال تحظى بالإعجاب، إلا أن بعض القواعد المفرطة أو السيئة التصميم تعرقل الاستثمار والابتكار وتحد من نمو الإنتاجية، خاصة عندما تكون تلك اللوائح في خدمة مصالح قائمة لا أهداف مجتمعية أوسع.

فعلى سبيل المثال، كثيراً ما تمنع التعقيدات البيروقراطية اللاجئين المؤهلين من العمل.

لا شك أن تخفيف هذه القيود سيكون صعباً، لا سيما في الدول التي تجعل مستويات المعيشة المرتفعة من التغيير مهمة مكلفة سياسياً.

فالعاملون الأوروبيون لن يوافقوا بسهولة على العمل لساعات أطول، أو التنازل عن أمنهم الوظيفي وإجازاتهم الطويلة، أو القيام بمهام غير مرغوبة.

لكن الفشل في إجراء التعديلات اللازمة يعني التضحية بالحيوية المستقبلية لصالح الحفاظ على إنجازات الماضي.

أخيراً، يتعين على أوروبا مواجهة نقص العمالة المتزايد من خلال سياسات هجرة تشمل الأفراد المهرة وغير المهرة على حد سواء.

فالتراجع الديموغرافي وارتفاع مستويات المعيشة يعنيان أن كثيراً من الوظائف، خصوصاً في الرعاية والبناء والخدمات، تظل شاغرة.

ولا يمكن تحقيق نمو مستدام أو ابتكار حقيقي إذا كان على القوة العاملة أن تلبي بالكاد الاحتياجات الأساسية للأسر والمجتمع.

ولا تعني إصلاحات سياسة الهجرة فتح الحدود بلا ضوابط، بل تتطلب إنشاء مسارات قانونية أمام من لديهم الاستعداد للمساهمة.

وقد يكون هذا التحدي هو الأصعب سياسياً، في ظل تصاعد المشاعر المعادية للمهاجرين وصعود أحزاب اليمين المتطرف، لكنه تحدٍ لا مفر من مواجهته.

إن انسحاب أمريكا من المسرح العالمي يتيح أمام أوروبا فرصة لم تحظَ بها منذ عقود.

والقدرة على استغلال هذه اللحظة التاريخية تتوقف على مدى نجاح القارة في تشكيل جبهة موحدة، والحفاظ على انفتاحها، وتحديث أطرها التنظيمية، وتبني نهج براغماتي للهجرة.

وفي حال فشلها، قد تعود الكفة لترجح لصالح آسيا، التي لم تتوقف يوماً عن الاستعداد للمستقبل.