
عودة إلى تعيين العميد أيت وعرابي.. مديرا للأمن الداخلي الجزائري جاذبية الرمز
أبوبكر زمّال
بين لحظة غياب صور تنصيب العميد أيت وعرابي عبد القادر مديرا عاما للأمن الداخلي وبثّها في اليوم التالي، تكثفت جاذبية الحدث في سماء الجزائر بعد أن فُــقــد الإيمان والثقة في كل شيء لدرجة الإحساس أن حقل الرموز تصحر للأبد، بسبب الكثير من العوامل والأسباب، ليس أقلها طغيان الأفعال والأقوال الغزيرة التي تشكك وتدمر وتحرف وتتطاول، وتؤسس لثقافة النسيان والمحو والتشويه، والتحطيم الذي طال هاته الرموز من لدن الأدعياء ورواد السوشيايل ميديا ومن يقال أنهم مؤثرين، دون أن ننسى ما يحاك من دسائس ومكائد هنا وهناك، داخليا وخارجيا.
في خضم هذا جاءت عودته من الغياب أشبه ما تكون بخضة، كان ينتظرها أمهر المراقبين على أحر من الجمر، ليس لأنها طالت بل لأنها برهان ساطع على أن هؤلاء الرجال حين يستدعون، ولو كانوا في بروج مشيدة سيكونون في مقدمة من يستجيب، وفي بالهم الواجب المقدس الممهور بدم التضحيات.
كغيره من القادة الكبار للمؤسسة الأمنية الجزائرية، لا يعرف الكثير عن القائد الجديد للأمن الداخلي؛ فالمعلومات غير وافية، بل شحيحة، ولا تشفي الغليل ولا ترضي. الرجل مغلف بالأسرار، ومبطن بالغموض، ومتخف في الظلال. قاد أعقد وأخطر العمليات في أزمنة الإرهاب والموت، وهو الوحيد، إن لم يكن الأندر والأخير، الذي أخرج الفريق أول توفيق، الأسطورة الصامتة للمخابرات الجزائرية، من كمون العزلة والسكون، في الوقت الذي ظن الكثيرون أن هذا الأخير لا يُرى ولا يُسمع. كتب عن الرجل رسالة شهيرة نشرت على نطاق واسع دافعت عنه في أحلك مرحلة، عندما زج به في ظروف ملتبسة وغامضة إلى السجن.
ابتلع الواقع المحير لسجنه، لم يكن هو لوحده الذي عصف بها بل أمتد الأمر إلى شخصيات كثيرة من مختلف مناحي الشأن العام، وهو واقع فرضه بالقوة والجبروت الفريق قايد صالح الرجل الأقوى في المؤسسة العسكرية أثناء إدارته أهم وأخطر فترة عاصفة مرت بها الجزائر، بدأت مع الحراك وإستقالة الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وأنتهت بإنتخاب تبون رئيسا للبلاد، كانت تلك برهة فارقة أصيب فيها الفريق قايد صالح بلوثة العظمة والنرجسية القاتلة، سيطر فيها على الجميع.
كان العميد أوعرابي يدرك قبل الحدث، وفي راهنه، وبعده، أن واجبه كعسكري منضبط، يدفعه إلى احترام القرارات العليا للدولة، حتى ولو كانت جائرة وظالمة ومنهكة وغير منطقية. وهي طينة نادرة ستتبدى عندما يدخل إلى السجن بمحكومية خمسة أعوام كاملة قضاها في السجن العسكري دون أن يحتج أو يتذمر أو ينطق بالسوء أو يخرق الأرض. ولما خرج من السجن، عاد إلى بيته في هدوء وطمأنينة يرقب ويترقب.
ربما من هذا المنطلق يمكن فهم دلالات الجاذبية التي أوجدها حدث التعيين في وعي وأذهان من تابعها عبر الوسائط ووسائل الإعلام المتنوعة، حتى أن صديقًا اشتغل معه لفترات طويلة تفاجأ بكم هائل من الاتصالات التي غابت عن هاتفه، ولم يسمع أصوات أصحابها منذ سنوات، عادت لترن وكادت أن تفجر هاتفه. بل حتى أخته اتصلت به للاستفسار والبحث عن شيء ما يخص الرجل.. هل عاد فعلًا؟
نعم، عاد، حتى وإن كان السؤال يثير الدهشة وينطوي على الحيرة في آن واحد.
كما خلخل سجنه دائرة من يعرفه وعمل معه، خلخلت عودته أيضا الكثيرين بعد أن تواصل معه من يملكون مفاتيح القرار الفعلي للحكم، وعرضوا عليه فكرة تولي منصب مدير جهاز الأمن الداخلي. ترددت أنباء أنه طرحها بين مد وجزر، ونقاشات عميقة، قبل أن يعود إلى قلب المؤسسة العسكرية نافذًا ببدلة جديدة تجلت ربما بشروط صارمة وحادة قبل قبوله المنصب. وبحسب ما يقول العارفون به وبشؤونه وبأسلوب عمله، لم يكن ليقبل بالمنصب جزافًا، ولن يقبل بعد الآن بسياسة الإملاءات التي بعثرتها في الجهاز الأكثر حساسية، قوى وأذرع ومصالح وحتى شخصيات من خارج الجهاز بسبب نفوذ بعضها عند صاحب القصر. وقد وصل الأمر في إحدى المرات إلى واقعة توبيخ أحد المكلفين بمهمة في الرئاسة لأحد كبار الضباط.
ما جرى بالتأكيد، هو أن تعيينه أحدث اختراقًا واسعًا للسرديات المحشورة والمستكينة في الكثير من مراكز التجاذبات التي أثقلت كاهل النظام، لدرجة أن الكثير من الملفات التي كانت في قبضة الجهاز، وكان لاعبًا ماهرًا فيها، ضاعت بوصلاتها في متاهات التدخلات. أكثر من ذلك، كان الكل يعلم أننا ضيعنا الكثير من الوقت في التفاهات بسبب الرأس الخشن والعناد، وأننا كنا نسبح ضد التيار العابر بضجيجه عند الأبواب، ولا أحد أمكنه وقف سيلان المعالجات الخاطئة، فكانت الكلفة غالية. أجهزة أمنية غير مستقرة ومضطربة، منزوعة الصلاحيات إلا في حدود معينة رسمت لها عن جهل وغباء وحمق وتبجح.
فكيف سيدير العميد الجهاز؟
لا يقتصر الجواب على الفعالية والإقدام والقدرة الاستثنائية للرجل في استشراف الأحداث بعمق يتجاوز ما تتيحه التقارير، بل يتعدى ذلك إلى أسلوبه الفريد في العمل كما يروي عنه من تعاونوا معه في الماضي، كان يجلس لساعات طويلة في مكتبه، في وضعية السكون، لا ينبس ببنت شفة ولا يتحرك إلا بقدر قليل. كان يحفر وينبش في خفايا أخطر المعلومات والملفات، حتى تستوي له صافية، خالية من الشوائب والزوائد التي تعلق بأعتابها، قبل أن يصوغها في عقله بيضاء من غير سوء، ويضعها مباشرة على مكتب مرؤوسه الوحيد آنذاك، الفريق أول محمد مدين الشهير بلقب توفيق.
كان ذلك في الماضي القريب، أما اليوم فهو يتربع على رأس الجهاز مباشرة، بلا وسائط أو حواجز أو مطبات تعوق حركته. في اعتقادي، سيستدعي خيرة الضباط الذين كانوا يشكلون فريقه، فالمرحلة الراهنة تتطلب انتباهات جديدة، وحتى إلى خيال يبتكر يــُخرج الأجهزة الأمنية من حالات الصدع إلى آفاق واسعة من التحسين والإصلاح، إلى هوية متجددة ستبدأ معه في هذه المرحلة الحساسة المشتبكة بالتحديات، وتحتاج إلى من يمتلك القدرة على تفكيك غلاظة خيوطها.
في لحظة التعيين وما تلاها، لا نعرف من ارتجف أكثر: الواثقون من أن لا شيء سيتغير في سماء الجزائر، وأن كل شيء دان لهم، وأن كل خطاب أو حديث عن أخطاءهم لن يجد من يقف ضدهم، أم أولئك الذين صبروا على الصدمات التي حدثت في صروح النظام وتاه في الأنفاق، وهم اليوم في قمة سعادتهم برؤية رجل يمكنه أن يخطو بالجهاز كما زميله في المخابرات الخارجية العميد موساي وغيرهم من كبار ضباط المؤسسة، يخطون إلى أفق مفعم بالنجاحات.
ستظل الصور القليلة التي رافقت تنصيب العميد أيت وعرابي عبد القادر، والتي طالما نقب عنها المرجفون والفضوليون وأخرجوا لنا صورًا زائفة، تدور وتدور لرجل لم يرفع عينيه عن الأوراق المفروشة أمامه، يستمع إلى الكلمة التوجيهية للفريق أول السعيد شنقريحة أمام الإطارات العليا للأجهزة والذي يلفت ضمنها وجود إمرأة برتبة جنرال حاضرة في الحدث. وستبقى الصور في رمزيتها القصوى صادة للأذى الذي لحق بعظمة المؤسسة العسكرية وعظمة رجالها الذين تربوا على قلب رجل واحد مهما كان حجم المخاطر والمؤمرات التي تهدد الجزائر، وليس العميد إلا واحدًا منهم.
كاتب جزائري
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: